الغلو في محبة النبي (صلى اللّه عليه وسلم)

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ


لقد أكرم اللّه البشرية والأمة المحمدية ببعثة الرسول المصطفى والنبي المجتبى محمد صلى اللّه عليه وسلم فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور وأتم اللّه به النعمة وكمل به الدين:

قال اللّه تعالى: {لقد من اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في اللّه حق جهادة حتى أتاه اليقين، ما من خيرإلا ودل عليه الأمة وما من شر إلا وحذرها منه فصلوات ربي وسلامه عليه.

ومن الأمور التي لا تخفى على المسلمين أن محبة النبي صلى اللّه عليه وسلم من الأمور الواجبة المتعينة على كل مسلم ومسلمة، وقد جاء في الحديث (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) وهذه المحبة الواجبة دليلها وبرهانها: طاعة النبي صلى اللّه عليه وسلم فيما أمر وتصديقه في ما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وألا يعبد اللّه إلا بما شرع قال اللّه تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقال سبحانه: {لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة لمن كان يرجو اللّه واليوم الآخر}، قال الحافظ ابن كثير - رحمه اللّه -: (هذه الآية الكريمة أصل في التأسي بالنبي صلى اللّه عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله).

ومن القواعد المهمة في الإسلام أن العبادات توقيفية لا مجال للعقل فيها، وهي مبنية على الاتباع لا الابتداع، وأن الأصل فيها الحظر والمنع حتى يرد الدليل على مشروعيتها، ودليل هذه القاعدة ما روته أم المؤمنين عائشة رضي اللّه عنها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » رواه مسلم.

إلا أن بعض المسلمين هداهم اللّه ابتدعوا في دين اللّه بدعا ما أنزل اللّه بها من سلطان، ومن ذلك ما يقع من بعضهم في شهر ربيع الأول من احتفال بمولد النبي صلى اللّه عليه وسلم، فظنوا أن هذا الاحتفال قربة وطاعة وما علموا أنه بدعة وضلالة، فالاحتفال بمولد النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر لا يجوز شرعاً وهو مردود لعدة أوجه:

أولاً: عدم وجود الدليل على مشروعيته من الكتاب أو السنة وقد قال اللّه تعالى:{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به اللّه} وفي الحديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».

ثانيا: أن الشريعة الإسلامية شريعة كاملة ليس فيها زيادة ولا نقصان، قال اللّه تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}.

وقال الإمام مالك - رحمه اللّه -: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم خان الرسالة، لأن اللّه يقول {اليوم أكملت لكم دينكم} فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا).

ثالثاً: أن الصحابة رضي اللّه عنهم أتقى الناس للّه تعالى وأشدهم حرصاً على الخير، وأعظم محبة للنبي صلى اللّه عليه وسلم ممن جاء بعدهم، ومع ذلك لم يحتفلوا بمولده صلى اللّه عليه وسلم ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ونحن مأمورون بالاهتداء بهديهم والسير على طريقتهم كما في حديث العرباض بن سارية رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة «رواه أبو داود والترمذي».

رابعاً: أن الاحتفال بمولده صلى اللّه عليه وسلم أمارة على الغلو فيه، وقد قال اللّه تعالى {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم}. وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين».

ومن المؤسف والمؤلم أن بعض المحتفلين بمولده صلى اللّه عليه وسلم صاروا يرددون القصائد المحرمة المشتملة على الكفر باللّه ومن ذلك ما جاء في بردة البوصيري:


يا أكرم الخلق من لي من ألوذ به
سواك عند حدوث الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم



واعتقاد: أن أحداً يعلم الغيب مع اللّه كفر باللّه لقوله تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللّه وما يشعرون أيان يبعثون}.

خامساً: أن الاحتفال بمولده صلى اللّه عليه وسلم تشبه بالنصارى الذي يحتفلون بميلاد المسيح عليه السلام وقد جاء في صحيح البخاري قوله صلى اللّه عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبداللّه».

سادساً: يعتذر بعض المحتفلين بمولد النبي صلى اللّه عليه وسلم بقولهم نحن نحب النبي صلى اللّه عليه وسلم ونريد الخير والثواب في ذلك.

فالجواب بأن يقال: إن حسن القصد أو إرادة الخير ليس مبرراً كافياً لصحة العمل، وإلا لو كان الأمر كذلك لصحت صلاة الظهر خمسا لمن أراد الخير في زيادة ركعة خامسة، وكذا الطواف حول البيت عشراً لمن أراد الخير في زيادة ثلاثة أشواط.

ورضي اللّه عن الصحابي الجليل عبداللّه بن مسعود عندما أنكر على جماعة ابتدعوا في الأذكار فقالوا: يا أبا عبدالرحمن واللّه ما أردنا إلا الخير فقال لهم: (وكم من مريدٍ للخير لم يصبه).

ولهذا قرر العلماء قاعدة جليلة وهي أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين اثنين عظيمين: الإخلاص للّه تعالى والمتابعة للنبي صلى اللّه عليه وسلم وهو معنى قوله تعالى: {هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}.

قال الفضل بن عياض: (أحسنه أخلصه وأصوبه أي خالصاً للّه صواباً على سنة رسوله صلى اللّه عليه وسلم).

ومن الأمور المنكرة التي تحصل في بعض احتفالات المولد النبوي اختلاط الرجال بالنساء، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدرات بل قد يصل الأمر والعياذ باللّه إلى الشرك الأكبر والاستغاثة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم أو غيره من الأولياء.

ومن الأمور المنكرة والقبيحة قيام بعضهم عند ذكر ولادته صلى اللّه عليه وسلم إكراماً له وتعظيماً لاعتقادهم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحضر المولد في مجلس احتفالهم ولهذا يقومون له محيين ومرحبين. وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتصل بأحد من الناس ولا يحضر اجتماعهم بل هو مقيم في قبره صلى اللّه عليه وسلم إلى يوم القيامة وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار كرامته، قال صلى اللّه عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من يشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع» أخرجه مسلم. وهذا دليل على أن النبي صلى اللّه عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة.

قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه اللّه - (وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم) أ.ه . نسأل اللّه تعالى أن يهدي ضال المسلمين وأن يردهم إلى التوحيد والسنة رداً جميلاً.

 

منقول عن موقع صيد الفوائد

 

 

المولد النبوي بين الاتباع والابتداع

بسم الله الرحمن الرحيم
اللَّهُمَّ اهدِني وسدِّدْني وثبِّتْني
المَوْلِدُ النَّبويُّ بينَ الاتِّباعِ والابتداعِ



الحمدُ للهِ الَّذي أَرسَلَ رسولَه بالهدى ودينِ الحقِّ لِيُظهِرَه على الدِّينِ كُلِّه, أَحمَدُه سُبحانَه وأَشكُرُه، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على عبدِ اللهِ ورسولِه مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، أعلى النَّاسِ منزلةً، وأعظمِهم قدرًا, وأسماهم ذِكرًا.
خيرُ الأنامِ، وبدرُ الظَّلامِ، وماءُ الغمامِ، أَحبَّكَ ربِّي فصَلَّى عليكَ، عليكَ الصَّلاةُ وأزكى السَّلامِ؛ وعلى آلِه وصحبِه أُولِي النُّهى والأحلامِ، والتَّابعينَ لهم، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ.

أمَّا بعدُ؛ فإنَّ مَولِدَه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كان حَدَثًا عظيمًا، وهذا الحدثُ انقسم النَّاسُ فيه إلى فريقينِ:
- مُتَّبِعٌ لِمَا جاء عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- باتِّباعِ ما أمر، واجتنابِ ما عنه نهى وزَجَرَ.
- ومُبتدِعٌ ابتَدَع بِدَعًا حسَّنها له ذَوقُه وهواه، وزيَّنها له شيطانُه ونفسُه، فنشأ عندَ بعضِ الضُّلَّالِ من الرَّافضةِ والصُّوفيَّةِ وجَهَلةِ المسلمين ما يُسمَّى بالاحتفالِ بيومِ (المَوْلِدِ النَّبويِّ الشَّريفِ)!

وقبلَ التَّحقيقِ المُوجَزِ لهذه المسألةِ، ينبغي أن يَعلَمَ الجميعُ: أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-ما مات إلَّا وقد بيَّن لنا أحكامَ الدِّينِ أَكمَلَ بيانٍ وأَوضَحَه، بل ما مات -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-وطائرٌ يُقلِّبُ جناحَيْه في السَّماءِ إلَّا وعندَ الأُمَّةِ منه خبرٌ.

في يومِ الحجِّ الأكبرِ أَنزَلَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- على نبيِّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- آيةً من كتابِه بَيَّنَ فيها كمالَ الدِّينِ وتمامَه؛ فقال جَلَّ وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}[المائدة: 3].

تَأمَّلُوا في قولِه: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}؛ جاء بلَفْظةِ الكمالِ هنا، معَ وُرُودِ لفظةِ التَّمامِ في ذاتِ الآيةِ؛ فما الفرقُ بينَ الكمالِ والتَّمامِ في القرآنِ الكريمِ؟ عِلْمًا أنَّ لفظةَ الكمالِ بسياقِها في القرآنِ لم تَرِدْ إلَّا في موضعينِ:

- في آياتِ الصِّيامِ، في سورةِ البقرةِ، في قولِ اللهِ تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}[البقرة: 158].

- وفي هذه الآيةِ. وتَأمَّلُوا ذلك في كتابِ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى.
إنَّ المُتأمِّلَ في لفظةِ(الكمال) يُدرِكُ أنَّه لا يُؤتَى بها إلَّا في الشَّيءِ الَّذي لا يُمكِنُ أن يُزادَ عليه، بل الزِّيادةُ عليه ممَّا يُعابُ لا ممَّا يُستحسَنُ، وممَّا يُرَدُّ بغيرِ قَبُولٍ، فإذا بلغ الشَّيءُ المِثالَ الأَعلى يُقالُ له: كَمُلَ، أَو كَمَالٌ. ولذلك قال اللهُ هنا: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.

أمَّا التَّمامُ فقد يُزادُ عليه، والزِّيادةُ فيه مقبولةٌ أحيانًا، ولذلك قال اللهُ هنا: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}؛ فقد يُتِمُّ اللهُ على العبدِ نعمةً، ثُمَّ يَمُنُّ عليه بزيادةِ نِعَمٍ على نِعَمِه الَّتي آتاه، فتكونُ الزِّيادةُ والتَّمامُ له بالنِّعَمِ ممَّا يُقبَلُ ويُحمَدُ.

وعليه فإنَّ الدِّينَ قد كَمُلَ فلا يَقبَلُ الزِّيادةَ، فمَن زاد في الدِّينِ فقد أَنقَصَه، كما أنَّ النَّقصَ فيه نقصٌ، ولذلك جاء في الصَّحيحينِ من حديثِ أُمِّنَا عائشةَ -رضي اللهُ عنها- أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- قال:«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ؛ فَهُوَ رَدٌّ»، وفي روايةِ مُسلمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌّ».

فهذا الحديثُ أصلٌ من أصولِ الدِّينِ، أصلٌ لِرَدِّ كُلِّ مُحدَثةٍ وبدعةٍ، قال الحافظُ ابنُ رجبٍ -رحمه اللهُ تعالى-: (فكُلُّ مَن أَحدَث شيئًا، ونَسَبَه إلى الدِّينِ، ولم يكنْ لهُ أصلٌ من الدِّينِ يُرجَعُ إليه = فهو ضَلالةٌ، والدِّينُ بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائلُ الاعتقادِ أو الأعمالِ أو الأقوالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ) [«جامع العلوم والحِكَم»2/128]، فإذا تَقرَّر هذا الأصلُ فنَلِجُ إلى مسألةِ الاحتفالِ بالمَوْلِدِ النَّبويِّ، وحُكمِه، فنقولُ:

الَّذي يَظهَرُ -واللهُ تعالى أعلمُ- أنَّ الاحتفالَ بالمولدِ النَّبويِّ بدعةٌ مُنكَرةٌ، يجبُ إنكارُها والتَّحذيرُ منها، وليست كما قال بعضُهم: مسألةٌ اجتهاديَّةٌ يسوغُ فيها الخلافُ. بل لا خلافَ في بِدْعيَّتِها، وتظهرُ بدعيَّتُها من أوجهٍ:

أوَّلًا: ينبغي أن يُعلَمَ أنَّه لا يَثبُتُ بدليلٍ صحيحٍ، أو نقلٍ صريحٍ من أهلِ التَّاريخِ أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وُلِد في اليومِ الثَّاني عشَرَ من شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ، بل إنَّ في تاريخِ مَوْلِدِه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- خِلافًا مشهورًا، فلا يَثبُتُ أنَّه وُلِد في هذا التَّاريخِ، وصَحابتُه -رضوانُ اللهِ عليهم- لم يعلموا أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وُلِد يومَ الاثنينِ إلَّا منه، فهو أعلمُ النَّاسِ بمَوْلِدِه، ومعَ هذا لم يُحدِّدْ لهم أيَّ اثنينِ هو؟ ولا سألوه هم؛ لأنَّ الدِّينَ عملٌ لا حَدَثٌ.

فلم يَثبُتْ على وجهِ التَّحديدِ تاريخُ ولادةِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-،وإنَّما ذَكَرَ أهلُ السِّيَرِ في ذلك أقوالًا مُتعدِّدةً، قد اشتَهَر القولُ بأنَّ مَولِدَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كان في الثَّاني عشَرَ من شهرِ ربيعٍ الأوَّلِ، وقد رجَّحه بعضُ العلماءِ، إلَّا أنَّ ذلك لا يثبتُ بوجهٍ صحيحٍ.

ثانيًا: لا يُعلَمُ من أحدٍ من أهلِ القرونِ المُفضَّلةِ أنَّهم احتَفَلوا بالمولدِ النَّبويِّ،وقد بيَّن النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- خيرَ القرونِ بقولِه: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[مُتَّفَقٌ عليه]، والخيريَّةُ هنا في الاتِّباعِ، فلم يُنقَلْ في تاريخِ الصَّحابةِ، والتَّابعين، وتابِعِيهم، وتابعِي تابِعِيهم، بل إلى ما يَزِيدُ على ثَلاثِمِئةٍ وخمسينَ سنةً هجريَّةً، لم نَجِدْ أحدًا لا من العلماءِ، ولا من الحُكَّامِ، ولا حتَّى من عامَّةِ النَّاسِمَن قال بهذا، أو أمر به، أو حثَّ عليه؛ بل وَرَدَ ما يَدُلُّ على خلافِه، وذلك أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ -رضي اللهُ عنه- أرَّخ التَّاريخَ بالهجرةِ النَّبويَّةِ، ولم يُؤرِّخْه بميلادِ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، كما فعل أهلُ الكتابِ في عيسى ابنِ مريمَ عليه السَّلامُ؛ لِيُعلِمَ النَّاسَ أنَّنا أُمَّةُ عملٍ، لا أُمَّةُ أزمنةٍ وحوادثَ مُجرَّدةٍ!

قال الحافظُ السَّخاويُّ -رحمه اللهُ تعالى- في «فتاويه»: (عملُ المَوْلِدِ الشَّريفِ لم يُنقَلْ عن أحدٍ من السَّلفِ الصَّالحِ في القرونِ الثَّلاثةِ الفاضلةِ، وإنَّما حدث بعدَهم) [نقلًا عن «سُبُل الهُدَى والرَّشاد» للصَّالحيِّ 1/439، ط. وزارة الأوقاف المصريَّة].

إذًا، السُّؤالُ المُهِمُّ: متى حدث هذا الأمرُ؟ [أَعنِي الاحتفالَ بالمولدِ النَّبويِّ]، وهل الَّذي أَحدَثه علماءُ أَو حُكَّامُ وملوكُ وخلفاءُ أهلِ السُّنَّةِ ومَن يُوثَقُ بهم، أم أحدٌ غيرهم؟
والجوابُ عن هذا السُّؤالِ باختصارٍ، كما قرَّره أهلُ التَّواريخِ والسِّيَرِ والمعرفةِ بأحوالِ النَّاسِ:

أنَّه حدث في القرنِ الرَّابعِ الهجريِّ، على يدِ حُكَّامِ الدَّولةِ العُبَيديَّةِ الرَّافضيَّةِ [المُسمَّاةِ زُورًا بالفاطميَّةِ]؛ فهو ابتداعٌ مِن دولةٍ رافضيَّةٍ، ذاتِ زُورٍ وبهتانٍ، وهذه البدعةُ نشأت عندَهم من الغُلُوِّ في آلِ البيتِ، المُتمثِّلِ في إقامةِ مَوْلِدِ عليٍّ، وفاطمةَ، والحسنِ، والحُسَينِ، فحَشَروا بدعةَ المولدِ النَّبويِّ بينَ هذه البدعِ تماشيًا معَ بدعِهم!!

ثالثًا: العباداتُ مبنيَّةٌ على التَّوقيفِ؛ فلا يُتعبَّدُ للهِ -عزَّ وجلَّ- إلَّا بدليلٍ من الكتابِ أو السُّنَّةِ، فهل اللهُ سبحانه تَعبَّدَنا بالاحتفالِ بالنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وبمَولِدِه، أم تَعبَّدَنا باتِّباعِه والسَّيرِ على منهجِه واقتفاءِ أثرِه؟ يقولُ اللهُ تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21].

قال الحافظُ ابنُ كثيرٍ -رحمه اللهُ تعالى-: (هذه الآيةُ الكريمةُ أصلٌ كبيرٌ في التَّأسِّي برسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في أقوالِه، وأفعالِه، وأحوالِه)[«تفسير ابن كثير»6/391].

لمَّا ادَّعى قومٌ محبَّةَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؛ ابتلاهم اللهُ بهذه الآيةِ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[آل عمران: 31]، فمَن ادَّعى محبَّةَ النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فإنَّه يُطالَبُ باتِّباعِه، لا بالاحتفالِ بمَولِدِه!

رابعًا: هل أَمَرَنا النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بهذا، أو ذَكَّرَ به، أم أنَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- حذَّر مِن مثلِ هذا التَّصرُّفِ؛ من إطرائِه وتَجاوُزِ الحدِّ فيه؟!
لقد حذَّر من ذلك على المنبرِ بقولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[أخرجه البخاريُّ]، ولذلك يقولُ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّور: 63]. قال ابنُ كثيرٍ -رحمه اللهُ تعالى-: (أي: فَلْيَحذَرْ وَلْيَخْشَ مَن خالَفَ شريعةَ الرَّسولِ باطنًا أو ظاهرًا {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: في قلوبِهم، من كُفرٍ أو نفاقٍ أو بدعةٍ، {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الدُّنيا؛ بقتلٍ، أو حدٍّ، أو حبسٍ، أو نحوِ ذلك)[«تفسير ابن كثير»6/90].

فنحنُ أُمِرْنا بالاتِّباعِ لا الابتداعِ، وبالمحبَّةِ له -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لا بتجاوزِ الحدِّ فيه، وبتوقيرِه لا برفعِه عن منزلتِه. والَّذي يفعلُ هذا الأمرَ داخلٌ ضِمنَ الوعيدِ الَّذي تَوعَّد اللهُ -عزَّ وجلَّ- صاحبَه وفاعلَه بقولِه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}[النِّساء: 115]، والَّذي يفعلُ ما يُسمَّى بالمولدِ ويحتفلُ به لاشكَّ أنَّه مُتَّبِعٌ لغيرِ سبيلِ المؤمنين من الصَّحابةِ والتَّابعين وتابعيهم.

خامسًا: أيُّهما أعظمُ: يومُ المَولِدِ، أم يومُ البَعْثةِ؟
يومُ المولدِ عظيمٌ، لكنَّ يومَ البعثةِ أعظمُ، ففيه نزل على مُحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- القرآنُ، وشُرِّفَ بالنُّبوَّةِ، ومعَ ذلك لم يُحدِّدْ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يومَ البعثةِ؛ لأنَّه ليس محلًّا لعملٍ خاصٍّ؛ فكيف يُعظَّمُ يومُ المولدِ؟!

واللهُ تعالى لم يُنوِّهْ في القرآنِ بمَولِدِه، وإنَّما نَوَّه ببعثتِه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- فقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [آل عمران: 164].

سادسًا: الاحتفالُ بالمولدِ النَّبويِّ يفتحُ البابَ على مِصْراعَيْهِ للبدعِ الأخرى والموالدِ والاحتفالاتِ، كما هو حالُ الجهلةِ الآنَ، من إقامةِ الاحتفالاتِ بذكرى الهجرةِ، والإسراءِ والمعراجِ، ومعركةِ بدرٍ، ومولدِ البدويِّ، والدُّسوقيِّ، والشَّاذُليِّ، حتَّى صار غالبُ دينِ هؤلاءِ احتفالاتٍ ورقصًا وغناءً وذكرياتٍ! وإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون.

سابعًا: إنَّ هذا الاحتفالَ معَ كونِه بدعةً في الدِّينِ، فهو كذلك مُشابَهةٌ للنَّصارى في احتفالاتِهم البدعيَّةِ بمولدِ المسيحِ عيسى عليه السَّلامِ، في كُلِّ سنةٍ، وقد نُهِينا عن مُشابَهتِهم في عباداتِهم وأعيادِهم وعاداتِهم الَّتي اختُصُّوا بها.

وممَّا سبق يَتبيَّنُ أنَّ هذا العملَ ليس من هديِ نبيِّنا -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، ولا من هديِ خلفائِه، ولا مَن جاء بعدَهم، بل هو بدعةٌ رافضيَّةٌ مَقِيتةٌ، وحَدَثٌ صُوفيٌّ رذيلٌ، وفعلٌ من الجهلةِ قبيحٌ.


نسألُ اللهَ الهدايةَ لجميعِ المسلمين، والنَّجاةَ من البدعِ والمُحدَثاتِ، اللَّهُمَّ آمينَ.
واللهُ تعالى أعلمُ وأحكمُ.

 

منقول عن موقع صيد الفوائد

 

 

خطبة بعنوان: صفة الحج والعمرة

لفضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي بعث محمدا -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على العباد أجمعين، وجعل دينه مبنيا على تحقيق العبادة لله رب العالمين، ميسرا، سمحا، سهلا، لا حرج فيه ولا مشقة، ولا تضيق، ولا تعسير.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي القدير.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.

أما بعد:

أيها الناس: إنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام، راجين من الله تكفير ذنوبكم والآثام، والفوز بدار السلام، والخلف العاجل عما انفقتموه في هذا السبيل من الأموال.

فيا أيها المسلمون: إنكم تتوجهون إلى بيت ربكم وحرماته إلى أمكنة فاضلة، تؤدون فيها عبادة من أفضل العبادات، لستم تريدون بذلك نزهة، ولا فخرا، ولا رياءً، بل تريدون عبادة تتقربون بها إلى الله، وتخضعون فيها لعظمة ربكم.

فأدوها -أيها المسلمون-: كما أمرتم من غير غلو، ولا تقصير، ولا إهمال، ولا تفريط، وقوموا فيها بما أوجب الله عليكم، من الطهارة، والصلاة، وغيرها من شرائع الدين.

إذا خرجتم مسافرين إليها، فاستحضروا أنكم خارجون لعبادة من أجل الطاعات.

وفي سفركم التزموا القيام بالواجبات، من الطهارة، والجماعة للصلاة، فإن كثيرا من الناس يفرطون في الطهارة، فيتيممون مع إمكان الحصول على الماء، وإن من وجد الماء، فلا يجوز له أن يتيمم.
وبعض الناس يتهاون بالصلاة مع الجماعة، فتجده يتشاغل عنها بأشياء يدركها بعد الصلاة.

وإذا صليتم، فصلوا قصرا تجعلون الصلاة الرباعية ركعتين من خروجكم من بلدكم، حتى ترجعوا إليه، إلا أن تصلوا خلف إمام يتم، فأتموها أربعا تبعا للإمام سواء أدركتم الصلاة، أو فاتكم شيء منها.

وأما الجمع، فإن السنة للمسافر، ألا يجمع إلا إذا جد به السير، وأما النازل في مكان، فالسنة ألا يجمع.

وأما الرواتب التابعة للمكتوبات، فالأولى تركها إلا سنة الفجر.

وأما الوتر، وبقية النوافل، فإنهما يفعلان في الحضر والسفر.

وتحلوا بالأخلاق الفاضلة من، السخاء، والكرم، وطلاقه الوجه، والصبر على الآلام، والتحمل من الناس، فإن الأمر لا يدوم.

وللصبر عاقبة محمودة، وحلاوة لذيذة.
وإذا وصلتم الميقات، فاغتسلوا، وتطيبوا في أبدانكم في الرأس واللحية.

ثم أحرموا بالعمرة متمتعين، وسيروا إلى مكة ملبين، فإذا بلغتم البيت الحرام، فطوفوا سبعة أشواط طواف العمرة.

واعلموا أن جميع المساجد مكان للطواف القريب من الكعبة والبعيد، لكن القرب منها أفضل، إذ لم تتأذ بالزحام، فإذا كان زحام، فأبعد عنه، والأمر واسع -ولله الحمد-.

فإذا فرغتم من الطواف، فصلوا ركعتين خلف مقام إبراهيم إما قريبا منه، إن تيسر، وإلا فلو بعيد المهم أن يكون المقام بينك وبين الكعبة.
ثم اخرجوا لسعي العمرة، وابدأوا بالصفا.

فإذا أكملتم الأشواط السبعة، فقصروا من رؤوسكم من جميع الرأس، ولا يجزئ التقصير من جانب واحد لا تغتروا بفعل الكثير من الناس.

فإذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة، فاغتسلوا، وتطيبوا، وأحرموا بالحج من مكان نزولكم، واخرجوا إلى منى، وصلوا بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء الآخرة، والفجر، قصرا من غير جمع؛ لأن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- كان يقصر بمنى، وفي مكة، ولا يجمع.

فإذا طلعت الشمس يوم عرفة، فسيروا ملبين، خاشعين لله إلى عرفة، واجمعوا فيها بين الظهر والعصر جمع تقديم على ركعتين.

ثم تفرغوا للدعاء، والابتهال إلى الله.

واحرصوا أن تكونوا على طهارة، واستقبلوا القبلة، ولو كان الجبل خلفكم؛ لأن المشروع استقبال القبلة.

وانتبهوا جيدا لحدود عرفة وعلاماتها، فإن كثيرا من الحجاج يقفون دونها، ومن لم يقف بعرفة، فلا حج له؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الحج عرفة"

وكل عرفة موقف شرقيها وغربيها، وجنوبيها وشماليها، إلا بطن الوادي، وادي عرنة؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف"
فإذا غربت الشمس، وتحققتم غروبها، فادفعوا إلى مزدلفة ملبين خاشعين.

والزموا السكينة ما أمكنكم، كما أمركم بذلك نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، فلقد دفع من عرفة، وقد شنق لناقته الزمام، حتى أن رأسها ليصيب مورك رحله، وهو يقول بيده الكريمة: "أيها الناس السكينة السكينة"

فإذا وصلتم مزدلفة، فصلوا بها المغرب والعشاء، ثم بيتوا بها إلى الفجر.

ولم يرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد في الدفع من مزدلفة قبل الفجر إلا للضعفة رخص لهم أن يدفعوا في آخر الليل.

فإذا صليتم الفجر، فاتجهوا إلى القبلة، وكبروا الله، واحمدوه، وادعوه حتى تسفروا جدا، ثم سيروا قبل طلوع الشمس إلى منى، ثم القطوا سبع حصيات، واذهبوا إلى جمرة العقبة، وهي الأخيرة التي تلي مكة، وارموها بعد طلوع الشمس بسبع تكبرون الله مع كل حصاة، خاضعين له، معظمين.

واعلموا أن المقصود من الرمي تعظيم الله، وإقامة ذكره.

ويجب أن تقع الحصاة في الحوض، وليس بشرط أن تضرب العمود.

فإذا فرغتم من رمي الجمرة، فاذبحوا الهدي، ولا يجزئ في الهدي إلا ما يجزئ في الأضحية.

ولا بأس أن توكل شخصا يذبح لك.

ثم احلقوا بعد الذبح رؤوسكم، ويجب حلق جميع الرأس، ولا يجوز حلق جميع الرأس، ولا يجوز حلق بعضه دون بعض.

والمرأة تقصر من أطراف رأسها بقدر أنملة.


وبعد ذلك حللتم التحلل الأول، فالبسوا، وقصوا أظفاركم، وتطيبوا، ولا تأتوا النساء.

ثم انزلوا قبل صلاة الظهر إلى مكة، وطوفوا للحج، واسعوا، ثم، ارجعوا إلى منى.

وبالطواف والسعي مع الرمي، والحلق حللتم التحلل الثاني، وجاز لكم كل شيء، حتى النساء.
أيها الناس: إن الحاج يفعل يوم العيد أربعة أنساك: رمي الجمرة، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، والسعي، وهذا هو الترتيب الأكمل

ولكن لو قدمتم بعضها على بعض، فحلقتم قبل الذبح مثلا، فلا حرج، ولو أخرتم الطواف والسعي حتى تنزلوا من منى، فلا حرج، ولو أخرتم الذبح، وذبحتم في مكة في اليوم الثالث عشر، فلا حرج، لا سيما مع الحاجة والمصلحة.

وبيتوا ليلة الحادي عشر بمنى، فإذا زالت الشمس، فارموا الجمرات الثلاث مبتدئين بالأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة كل واحدة بسبع حصيات تكبرون مع كل حصاة.

ووقت الرمي في يوم العيد للقادر من طلوع الشمس، وللضعيف من آخر الليل وآخره إلى غروب الشمس.

ووقته فيما بعد العيد من الزوال إلى غروب الشمس، ولا يجوز قبل الزوال، ويجوز الرمي في الليل، إذا كان الزحام شديدا في النهار.

ومن كان لا يستطيع الرمي بنفسه لصغر أو كبر أو مرض، فله أن يوكل من يرمي عنه، ولا بأس أن يرمي الوكيل عن نفسه، وعمن وكله في مقام واحد، لكن يبدأ بالرمي لنفسه.

فإذا رميتم اليوم الثاني عشر، فقد انتهى الحج، وأنتم بالخيار، إن شئتم تعجلتم، ونزلتم، وإن شئتم، فبيتوا ليلة الثالث عشر.

وارموا الجمار الثلاث بعد الزوال، وهذا أفضل؛ لأنه فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-.


فإذا أردتم الخروج من مكة، فطوفوا للوداع، والحائض والنفساء لا وداع عليهما، ولا يشرع لهما المجيء إلى باب المسجد، والوقوف عنده.

أيها المسلمون: هذه صفة الحج، فاتقوا الله فيه، ما استطعتم، واسمعوا، وأطيعوا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بِما فيه من الآيات والذكْر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .


الخطبة الثانية:
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا مباركًا طيِّبًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو الله بها النجاة يوم نلاقيه، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .

أما بعد:

أيها المسلمون، فاذكروا نعمة الله عليكم بهذا الدين القويم، وأقيموه لله مُخلصين ولرسوله متَّبعين، واسألوا الله عليه الثبات إلى يوم تلقون رب العالمين .

أيها المسلمون، إن دين الإسلام وصفه الله تعالى بأنه كامل، فقال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً)
ولهذا كان الدين الإسلامي وسطًا بين الأديان السابقة وعدلاً خيارًا ومُهيمنًا عليها، ناسخًا لها، فلا قيام للأديان السابقة مع الدين الإسلامي، ومِن وسطيّته وعدله بين الأديان: أنه كانت شريعة التوراة إذا قتل أحدٌ أحدًا فإنه يجب قتله ولا خيار لأولياء المقتول في العفو عنه كما قال الله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) إلى آخر الآية، وكانت شريعة عيسى بن مريم دون ذلك فكانت توجِبُ السماح والعفو؛ لأن الناس في ذلك الوقت لا يُطيقون المقاصَّة، أما هذا الدين الإسلامي فكان عدلاً ورحمة كما قال الله عزَّ وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)

اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .

 

 

القراء العشرة ورواتهم

القراء العشرة ورواتهم

 

مقال تعريفي 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد،،

فقد أصبح التعرف على علم القراءات وإدراك أطوراه غاية في الأهمية، ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفُه، وأولى ما يلزم بحثُه؛ ما كان لأصل دينهم قِوامًا، ولقاعدة توحيدهم عمادًا ونظامًا، وعلى صدق نبيهم ﷺ برهانًا، ولمعجزته ثبتًا وحجة.

ولا سيما أن الجهل ممدود الرِّواق، شديد النَّفاق، مستولٍ على الآفاق، فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين.

 

تعريف عام للقراءات:

علم القراءات على اصطلاح أحد أبرز أئمته، وهو ابن الجزري رحمه الله تعالى: هو علمٌ بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوًّا لناقله.

أي أنه يتناول ألفاظ القرآن الكريم من تخفيفٍ وتشديدٍ، ومدٍ وقصرٍ، وتسهيلٍ في الهمزات وتحقيقٍ، وما شابه من مظاهر أصول التلاوة القرآنية.

فهو فن له مصطلحاته الخاصة به كغيره من علوم الشريعة، ومراحله التي مرَّ بها حتى نضج نضوج الثمار اليانعة، وهذا الفن يزيد المسلم يقينًا في وثوقية النص القرآني، ووصوله إلينا سالمًا من أي زيادة أو نقصان، فضلًا عن التغيير والتبديل والتحريف.

فمثلًا نحن نقرأ في مصر بقراءة الإمام عاصم لراويه حفص، وأهل المغرب يقرؤون بقراءة الإمام نافع لراويه قالون، وأهل بلد آخر يقرؤون بقراءة أخرى وهكذا، فأهل كل بلد يقرؤون بما يسهل على لسانهم.

وعلم القراءات من أشرف العلوم لتعلقه بأشرف الكلام، وهو باب عظيم من أبواب خدمة كتاب الله وحفظه، وهو من عجائب القرآن التي لا تنقضي، ودراسته مما تُفنى فيه الأعمار، وهو ثغر عظيم لا يُوفَّق إليه إلا من أراد الله له الخير لقوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾

فتعلمه وجه من وجوه تعلم القرآن، وفضل العناية به كفضل العناية بالقرآن لقول النبي ﷺ:

«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

وقد صار لهذا العلم جهات تعنى بتدريسه، وخصصت له معاهدٌ وكلياتٌ خاصة،كمعاهد القراءات التابعة للأزهر الشريف في مصر، وقسم القراءات وعلومه في الجامعة الإسلامية في المدينة وغيرهما 
وهذا من عظيم شرف هذه الأمة على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كلام ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عنه لفظة لفظة، وإتقان تجويده، فلم يهملوا تحريكًا ولا تسكينًا ولا تفخيمًا ولا ترقيقًا، حتى ضبطوا مقادير المدات وتفاوت الإمالات وميزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتد إليه فكر سابق ولا أمة سالفة.

ويسمى العالم بالقراءات الذي تلقاها بالمشافهة وأجيز بتعليمها لغيره مقرئًا، وطالب علم القراءات إما أن يكون مبتدئًا أو متوسطًا أو منتهيًا.

  • فالمبتدئ عند أهل الفن من حفظ القرآن بقراءة واحدة إلى ثلاث.
  • والمتوسط من حفظه بثلاث قراءات إلى خمس.
  • والمنتهي من عرف من القراءات أشهرها.

وفائدة هذا العلم الجليل حفظ القرآن من التحريف والتغيير، فلا يقرأ أحد إلا بوجه ثابت عن النبي ﷺ.

وهو تيسيرٌ على الأمة لاختلاف ألسنتها ولهجاتها، فقد كان القرآن ينزل أول الأمر بلهجة واحدة، ثم سأل النبي ﷺ ربه التخفيف لأمته.

وهو مورد عظيم لاستنباط المعاني والأحكام لدى أهل العلم.

والمشتغل بهذا العلم له أوفر الحظ والنصيب إن أخلص فيه لله تعالى، فلا يستوي في المرتبة من حفظ القرآن بقراءة واحدة مع من حفظه بقراءتين مع من جمع العشر المتواترة كلها، ولكلٍ درجات مما عملوا، وفي الحديث: «يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرآنِ اقْرَأ وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ [ أو منزلتك] عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا».

ولذا فهذا العلم جليل، ومن أراد أن يسلك طريق هذا العلم فله أولًا أن يتقن قراءة واحدة بأحد رواياتها، ثم ينتقل إلى غيرها بعد أن يأذن له شيخه، وهذا من باب تعلم الأولى فالأولى وتعلق الآخر بالأول.

والحكمة الأساسية من تنوع القراءات القرآنية هو التيسير على الأمة والتخفيف عنها، قال تعالى: ﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ ﴾ وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾.

فالعرب في زمن النبوة لم يكونوا كلهم على لسان واحد، وإنما كانوا على لهجات شتى، فمنهم الذي كان يهمز، ومنهم الذي يسهل الهمز، ومنهم الذي يبدل الهمز؛ فلا يستطيع أن ينطق: “إنما المؤمنون إخوة”، فيقول: “إنما المومنون إخوة”، ومنهم الذي يميل، ومنهم الذي يقلل ولا يستطيع أن يأتي بالفتح كاملًا، ومنهم الذي يقلب لام التعريف ميمًا، وعليها جاء حديث النبي ﷺ لما سأله الحِمْيَريُّ: هل من امبرِّ امصيام في امسفر؟ يقصد: هل من البر الصيام في السفر؟ فاضطر النبي ﷺ إلى استخدام لهجته ليفهمه الحكم الشرعي فقال: «ليس من امبرِّ امصيام في امسفر». أي: ليس من البر الصيام في السفر.

 فكان تنوع القراءات لهذا الغرض.

فمن المتواتر قراءة أبي عمرو البصري، وحمزة، والكسائي، وشعبة، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ فيقولون ﴿ لَرَؤُفٌ رَّحِيمٌ ﴾ وهذه لغة أهل الحجاز، ومنها قول جرير:

ترى للمسلمين عليك حقًا
كفعل الوالد الرؤف الرحيم


والثابت أن اختلاف القراءات المتواترة كله من قبيل اختلاف التنوع لا التضاد، فإن هذا محال في كلام الله تعالى، إذ كيف يكون من مصدر واحد ويقع التناقض فيه.

فليس الاختلاف بالتشهي ولا بالتمني وإنما هو مأخوذ من فيِّ النبي ﷺ، ولا يجوز أخذ القراءات بالقياس والاجتهاد وإنما أساسه الرواية والنقل عن رسول الله ﷺ.

قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾.

فإذا كان النبي ﷺ لا يملك حق تغيير حرف مكان حرف في كتاب الله، فغيره من باب أولى.

قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، واجتهاد الأئمة المتقدمين كان في الاختيار من بين الأحرف السبعة، ونسبة القراءة إلى الأئمة هي نسبة اختيار ولزوم ورواية واشتهار، وليست نسبة اختراع واجتهاد.

 

نزول القرآن على سبعة أحرف:

كان جبريل -عليه السلام- ينزل على الرسول ﷺ ليعرض عليه القرآن مصداقًا لقوله تعالى:

﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين ﴾، وكان النبي ﷺ يتلو ما ينزل عليه لأصحابه ويعلمهم إياه، فكانوا يحفظونه، ويعملون به. مصادقًا لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾.

ولم يكن القرآن ينزل على كيفية واحدة، وإنما كان ينزل على سبعة أحرف كما دلَّت الأحاديث الصحيحة. تلك الأحرف التي تمثلت فيما بعد في القراءات القرآنية المشهورة التي نسمعها اليوم، والتي نُقِلت إلينا بالنقل الصحيح المتواتر. كما اشتهر عن السلف قولُهم: القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول.

وأحاديث نزول القرآن بالأحرف السبعة كثيرة مشهورة:

فعن عمرَ بنِ الخطاب -رضي الله عنه- قال: « سمعتُ هشامَ بنَ حكيمِ بنِ حِزامٍ يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله ﷺ، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله ﷺ، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلَّم فلبَّبته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورةَ التي سمعتك تقرأ؟، قال: أقرأنيها رسول الله ﷺ، فقلت: كَذَبْتَ، فإن رسول الله ﷺ، قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله ﷺ، فقلتُ: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تُقرئنيها، فقال رسول الله ﷺ: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعتُه يقرأ، فقال رسول الله ﷺ: كذلك أُنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأتُ القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله ﷺ: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه ».

وعن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعتُهُ، فلم أَزَل أَستَزيدُهُ ويَزيدُني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ».

وفي حديث أبي بن كعب -رضي الله عنه-: « أن النبي ﷺ كان عند أضاةِ بني غِفارٍ، فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تَقرَأ أُمَّتُكَ القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تُطيق ذلك، ثم أتاه الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تَقْرَأَ أمتُك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تُطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأَيُّمَـا حرفٍ قرؤوا عليه فقد أصابوا».

وفي حديث آخرَ لأبيِّ بن كعب -رضي الله- قال: « لقي رسول الله ﷺ جبريلَ، فقال: يا جبريل، إني بُعثت إلى أمة أميين: منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قط، قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ».

وعلى هذا تلقى الصحابة هذه الحروفَ منه ﷺ، وتفرقوا بعد ذلك في الأمصار، وهم على هذا الحال يُعلِّمون المسلمين، ويُقرؤون القرآن بما سمعوه من الرسول ﷺ بحروفه المختلفة.

 

معنى الأحرف السبعة:

وللعلماء في تعيين معنى الأحرف السبعة أقوال كثيرة، وهذا التعدد في تفسير حقيقة الأحرف السبعة مرجعه عدم ورود ما يفسرها من أحاديث النبي ﷺ أو أقوال الصحابة الرواة لهذه الأحاديث، لأن معنى هذه الأحرف كان واضحًا عندهم فلم تظهر الحاجة إلى السؤال عن معناها.

وبذلك احتاج العلماء إلى الاجتهاد في بيان هذا المصطلح، فاختلفوا على أقوال كثيرة، ولعل أقرب هذه الأقوال للصواب؛ أن الأحرف السبعة هي الوجوه القرائية السبعة المنزلة المرخص بها في اللفظ الواحد، بمعنى أن أقصى حدٍّ يمكن أن تبلغه الوجوه القرآنية في نطق الكلمة الواحدة هو سبعة أوجه.

فهي سبعة أوجه، في كيفيات مختلفة، نزل بها الوحي على قلب النبي ﷺ، عَلَّمها جبريل للنبي ﷺ وتلقاها الصحابة عنه، وهذه الأوجه تكون في الكلمة الواحدة، وهي للتوسعة.

وأكثر كلمات القرآن الكريم يُقرأ على وجه واحد، وبعضها يُقرأ على وجهين، وبعضها على ثلاثة، وغاية التوسعة وصلت إلى سبعة أوجه في الكلمة الواحدة. وهذه الأحرف السبعة منها ما نسخ في العرضة الأخيرة، وما بقي منها ونقل إلينا بالنقل المتواتر وتلقته الأمة بالقبول هو ما نعرفه اليوم بالقراءات العشر المتواترة.

وكانت هناك طائفة من الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- عُرفوا بالقرَّاء، واشتهروا بتعليم القرآن وإقرائه منهم: الخلفاء الأربعة، وأبيُّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن السائب، وأبو هريرة، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وغيرهم الكثير. وهؤلاء الصحابة هم الذين دارت عليهم أسانيد القراءات التي نقرأ بها اليوم.

وأخذ عن الصحابة عدد من التابعين وتتلمذوا على أيديهم، منهم: أبو العالية الرياحي، والمغيرة بن أبي شهابٍ المخزومي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وأبو الأسود الدؤلي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والأسود بن يزيد النَّخعيُّ، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن السائب، وخلق كثير. وهكذا تناقلت القراءات من النبي إلى طبقة الصحابة ثم إلى طبقة التابعين ومن بعدهم.

وبذلك يتبين لنا أن القراءات بدأت مع نزول القرآن، فهي مرتبطة به ارتباطًا وثيقًا، وتفرقت في الأمصار مع انتشار الفتح الإسلامي، وحفظها الصحابة ووعوها ونشروها لمن بعدهم.كما قال تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ﴾

 

الإقراء في زمن عثمان رضي الله عنه:

بعد جمع القرآن على يد أبي بكر رضي الله عنه، ظلت الصحف التي جمعت عند أبي بكر طيلة حياته ثم عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- طيلة حياته ثم عند أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها.

وفي عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كثرت القراءات في العالم الإسلامي، وظهر النزاع والشقاق بين المسلمين، وهذا الاختلاف مفهوم متوقع، لأن القرآن كما قلنا نزل على سبعة أحرف، وتلقى الصحابة هذه الأحرف ونشروها في بلاد الإسلام، فمن الصحابة من كان يحفظ القرآن على حرف واحد، ومنهم من حفظه على حرفين، ومنهم من حفظه بأكثر من ذلك، وليس كل المسلمين آنذاك على دراية بكل الأحرف التي نزل بها القرآن وقرأ بها النبي ﷺ، فوصل هذا النزاع إلى عثمان فأمر بجمع المصاحف، وكتابتها برسم يحتمل أغلب الأوجه الصحيحة المتواترة التي قرأ بها النبي ﷺ، وأرسلها إلى المدن المشهورة وأرسل مع كل نسخة قارئًا يقرئ المسلمين من هذه النسخة بقراءة توافق قراءة أهل هذا المصر.

فكان مقصده -رضي الله عنه- جمع المسلمين على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول ﷺ، وصار بذلك معيار قبول القراءة القرآنية: التلقي بالسند المتصل عن رسول الله ﷺ، وموافقة رسم عثمان رضي الله عنه.

وهذا بخلاف الجمع الأول في عهد أبي بكر، فقد كان هدفه حفظ القرآن من الضياع بعد مقتل كثير من حملته في معركة اليمامة.

وأقبل جماعة من كل مصر من الأمصار على المصحف العثماني الذي أُرسل إليهم لتلقي القراءات وفق ما تلقاه المقرؤون عن النبي ﷺ، فبرز قراء التابعين في كل مصر من الأمصار.

وعقب فترة التابعين، تجرد قوم للقراءة والأخذ، واعتنوا بضبط القراءة أتم عناية، حتى صاروا في ذلك أئمة يقتدى بهم، ويرحل إليه، ويؤخذ عنهم، وأجمع أهل بلدهم على تلقي قراءاتهم بالقبول.

وكان القراء العشرة ورواتهم على رأس هؤلاء الأئمة.

 

بدايات التدوين لعلم القراءات:

– (السبعة، لابن مجاهد)

ظهر التدوين في علم القراءات، حينما ظهرت مرحلة التخصص والتجرد لعلم القراءات، فظهرت فكرة التحديد والاختيار، وذلك لكثرة الروايات والقراءات، وقلة الضبط. ففي أواخر القرن الثالث الهجري قام الإمام الجليل أبو بكر ابن مجاهد باختيار سبعة من القرَّاء، أراد بذلك أن يجمع الناس على قراءاتهم للتخفيف والتسهيل، واقتصر على هذه القراءات السبعة بعد تنقيحها والتثبت من تواترها، وذلك في كتابه المعروف: “السبعة في القراءات”، وكان رحمه الله حجةً في القراءات والحديث، فهو شيخ الصنعة، وكان ثقةً علامةً كبيرًا.

ويقال أنه اقتصر على هذا العدد لأنه أراد أن يجعل عدد القراء على عدد المصاحف التي أرسلها عثمان -رضي الله عنه- إلى الأمصار، وقيل أنه أراد أن يجعلهم على عدد الأحرف التي نزل بها القرآن، فليس المراد بالأحرف السبعة القراءات السبعة التي اختارها ابن مجاهد.

وهؤلاء الأئمة السبعة الذين اختار ابن مجاهد -رحمه الله تعالى- قراءتهم هم: الإمام نافع المدني، والإمام ابن كثير المكي، والإمام أبو عمرو البصري، والإمام ابن عامر الشامي، ومن الكوفيين اختار ثلاثةً من الأئمة؛ هم الإمام عاصم ابن أبي النَّجود، والإمام حمزة الزيات، والإمام الكسائي، رضي الله عنهم أجمعين.

كما اختار ابن مجاهد لكل قارئ راويين من أضبط رواته، محاولةً منه -رضي الله عنه- في حصر أوجه الخلاف بين القراءات، وحفظًا للمتواتر منها، وتسهيلًا على الحفاظ، وبيانًا لاختلاف المرويات عن القارئ الواحد.

وهذه الفكرة -أعني فكرة التحديد والاختيار من القراءات وفق أركانٍ وشروطٍ- قام بها أئمة كثيرون من الذين ألفوا في هذا العلم.

– (التيسير لأبي عمرو الداني، ونظمه للشاطبي)

وتتابع على نهج الإمام ابن مجاهد في تسبيع القراءات أئمة؛ منهم الإمام أبو عمرو الداني في كتابه: “التيسير”، والإمام الشاطبي في نظمه لكتاب التيسير والمسمى بـ“حرز الأماني ووجه التهاني”.

وهذا الاختيار ازداد رسوخًا وقبولًا عند أئمة الإقراء من بعده، ومنهم الإمام الشاطبي؛ أبو القاسم بن فِيرُّه بن خلف بن أحمد الشاطبي الأندلسي الرعيني الضرير ( ت: ٥٩٠ هـ ) الذي نظم كتاب التيسير للإمام الداني والذي صنفه الإمام الداني على نهج الإمام ابن مجاهد تقريرًا للأئمة السبعة الذين اختارهم.

يقول الشاطبي رحمه الله:

وفي يسرها التيسير رمت اختصاره
فأجنت بعون الله منه مُؤمَّلا

ولاقت هذه القصيدة -التي سماها الإمام: “حرز الأماني ووجه التهاني”- قبولًا واسعًا، كما قال الناظم رحمه الله تعالى:

وسميتها حرز الأماني تيمنًا
ووجه التهاني فاهنه متقَبِّلًا

وهي قصيدة ألفية لامية من البحر الطويل، شرح فيها الإمام الشاطبي أصول القراء السبعة، واختيار كل قارئ ومذهبه في الأصول والفرش بطريقة الرمز، فكل قارئ أو راو له رمز، وهذه القصيدة ساحرة في فصاحتها وبلاغتها، فلم يكن الشاطبي -رحمه الله- يضع فيها أي لفظ هكذا.

يقول عنه الإمام ابن الجزري -رحمه الله-: كان إمامًا أعجوبةً في الذكاء، كثير الفنون، آية من آيات الله تعالى، غايةً في القراءات، حافظًا للحديث، بصيرًا بالعربية، إمامًا في اللغة، رأسًا في الأدب مع الزهد والولاية والعبادة والانقطاع. ويقول عن قصيدته الشاطبية: ولقد رُزِقَ هذا الكتاب من الشهرة -يعني قصيدة الشاطبية- والقبول ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن، بل أكاد أقول: ولا في غير هذا الفن، فإنني لا أحسب أن بلدًا من بلاد الإسلام يخلو منه، بل لا أظن أن بيت طالب علم يخلو من نسخة منه.

وتتابع الأئمة وتسارعوا على هذه القصيدة بالشرح ومن أبرزهم؛ الإمام السخاوي تلميذ الإمام الشاطبي ومن أجلِّ أصحابه في شرحه “فتح الوصيد في شرح القصيد”، وهو أنفس شروح الشاطبية وأوسعها، والإمام الفاسي في شرحه “اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة”، والإمام شعلة في شرحه “كنز المعاني”، والإمام أبي شامة المقدسي في شرح “إبراز المعاني”، وغيرهم.

وهذه القصيدة حوت إلى جانب القراءات كثيرًا من معاني الإيمان والتزكية والتمسك بكتاب الله عز وجلَّ، يقول فيها الناظم رحمه الله تعالى:

وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ
وَأَغْنى غَنَاءٍ وَاهِبًا مُتَفَضِّلاَ

وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ
وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً

وَحَيْثُ الْفَتَى يَرْتَاعُ فيِ ظُلُمَاتِهِ
مِنَ اْلقَبرِ يَلْقَاهُ سَناً مُتَهَلِّلاً

هُنَالِكَ يَهْنِيهِ مَقِيلاً وَرَوْضَةً
وَمِنْ أَجْلِهِ فِي ذِرْوَةِ الْعِزّ يجتُلَى

يُنَاشِدُ في إرْضَائِهِ لحبِيِبِهِ
وَأَجْدِرْ بِهِ سُؤْلاً إلَيْهِ مُوَصَّلاَ


ويقول رحمه الله تعالى:

وَعِشْ سَالماً صَدْراً وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
تُحَضَّرْ حِظَارَ الْقُدْسِ أَنْقَى مُغَسَّلاَ

وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي
كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبَلاَ

وَلَوْ أَنَّ عَيْنًا سَاعَدتْ لتَوَكَّفَتْ
سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِ دِيمًا وَهُطَّلاَ

وَلكِنَّها عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهاَ
فَيَا ضَيْعَةَ الأَعْمَارِ تَمْشِى سَبَهْلَلاَ

بِنَفسِي مَنِ اسْتَهْدَىَ إلى اللهِ وَحْدَهُ
وَكانَ لَهُ الْقُرْآنُ شِرْبًا وَمَغْسَلاَ

وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ فَتفَتَّقَتْ
بِكُلِّ عَبِيرٍ حِينَ أَصْبَحَ مُخْضَلاَ

فَطُوبى لَهُ وَالشَّوْقُ يَبْعَثُ هَمَّهُ
وَزَنْدُ الأَسَى يَهْتَاجُ فِي الْقَلْبِ مُشْعِلاَ

هُوَ المُجْتَبَى يَغْدُو عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ
قَرِيباً غَرِيباً مُسْتَمَالاً مُؤَمَّلاَ

ويقول رحمه الله تعالى:

رِوَى الْقَلْبِ ذِكْرُ اللهِ فَاسْتَسْقِ مُقْبِلًا
وَلاَ تَعْدُ رَوْضَ الذَّاكِرِينَ فَتُمْحِلَا

وَآثِرْ عَنِ الآثَارِ مَثْرَاةَ عَذْبِهِ
وَمَا مِثْلُهُ لِلْعَبدِ حِصْنًا وَمَوْئِلَا

وَلاَ عَمَلٌ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِهِ
غَدَاةَ الْجَزَا مِنْ ذِكْرِهِ مُتَقَبَّلَا

ويصف -رحمه الله- حال صاحب القرآن؛ الصادق في صحبته، المداوم على ورده:

ومَنْ شَغَلَ الْقُرْآنُ عَنْهُ لِسَانَهُ
يَنَلْ خَيْرَ أَجْرِ الذَّاكِرِينَ مُكَمَّلَا

وَمَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ إِلاَّ افْتِتَاحُهُ
مَعَ الْخَتْمِ حِلاًّ وَارْتِحاَلًا مُوَصَّلَا

ومع هذه البراعة وهذا الضبط، يضرب لنا هذا الإمام الرباني مثلًا في تواضع العلماء، فيقول عن قصيدته:

أَخي أَيُّهَا الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ
يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوْقِ أَجْمِلاَ

وَظُنَّ بِهِ خَيْراً وَسَامِحْ نَسِيجَهُ
بِالاِغْضاَءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلاَ

وَسَلِّمْ لإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِصَابَةٌ
وَالُاخْرَى اجْتِهادٌ رَامَ صَوْبًا فَأَمْحَلاَ

وَإِنْ كانَ خَرْقٌ فَادرِكْهُ بِفَضْلَةٍ
مِنَ الْحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلاَ

ويقول أيضًا:

وَبِاللهِ حَوْلِى وَاعْتِصَامِي وَقُوَّتِى
وَمَاليَ إِلاَّ سِتْرُهُ مُتَجَلِّلاَ

فَيَا رَبِّ أَنْتَ اللهُ حَسْبي وَعُدَّتِي
عَلَيْكَ اعْتِمَادِي ضَارِعًا مُتَوَكِّلاَ



– (ابن الجزري وكتابه النشر)

بعد الإمام ابن مجاهد والإمام أبي عمرو الداني والإمام الشاطبي ودورهم في تقرير قراءات القرَّاء السبعة، وبعد أن رسخت في الأمة أسانيد هذه القراءات ومعرفة رواتها، استمر انفراد القراءات السبع بالتواتر والقبول حتى نهاية القرن الثامن ومطلع القرن التاسع الهجري، ثم جاء من أئمة الإقراء من يظهر أولوية بعض القراءات التي لم يتناولها الإمام ابن مجاهد، وسطع نجم شيخ القراء الإمام شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف العمري الدمشقي الشيرازي المعروف بابن الجزري -رحمه الله تعالى- فقد اعترض على عدم تضمين بعض القراءات كقراءة الإمام أبي جعفر المدني، وهو شيخ الإمام نافع المدني وأعلى سندًا منه، وقراءة الإمام يعقوب الحضرمي، وقراءة الإمام خلف بن هشام البزار.

فقام الإمام ابن الجزري بإثبات تواتر أسانيد هؤلاء القراء الثلاثة في كتابه: “تحبير التيسير”، ونظم في هذه القراءات الثلاث نظمه المعروف بالدرة المضية في القراءات الثلاث المرضية، واختار لكل قارئ من القراء الثلاثة راويين جريًا على سنة ابن مجاهد للتيسير على الأمة.

وهذه الإضافة من الإمام ابن الجزري ليست مبنية على عواطف انفعالية عنده، وإنما هي نتيجة علمية مبنية على أدلة علمية قوية تثبت تواتر هذه القراءات الثلاث، ولذا ذكر ابن الجزري في كتابه “منجد المقرئين” كلام العلماء في تواتر هذه الثلاثة، وسمى كثيرًا من العلماء في طبقات مختلفة قرأوا بهذه الثلاثة وقال رحمه الله: ولعمري ما فاتني لكثيرٌ؛ لأني لم أذكر إلا من تحققت أنه قرأ بها، وكلهم مذكورون مُتَرجمون في كتابي “طبقات القراء” فثبت من ذلك أن القراءات الثلاث متواترة تلقاها جماعة من جماعة مستحيل تواطئهم على الكذب. وبهذه القراءات الثلاث مع السبع التي نظمها الإمام الشاطبي تمت القراءات عشرًا.

ثم بعد ذلك اجتهد الإمام ابن الجزري في خدمة القراءات، واستيعاب ما كتب في القراءات بما لديه من آلة هذا العلم، ودرس أسانيدها، فاطلع على كثير من كتب هذا الفن بما فيهم شروح الشاطبية، حتى استخلص كتابه العظيم الذي صنفه، وهو “النشر في القراءات العشر”، وأورد فيه وجوهًا أخرى لم يستوعبها الإمام أبو عمرو الداني في كتابه “التيسير”، ولا الإمام الشاطبي في منظومته. ونظم -رحمه الله- نظمًا جديدًا للقراءات العشر سماه “طيبة النشر في القراءات العشر

واصطلح على سبعة الإمام ابن مجاهد مع ثلاثة ابن الجزري التي أكملها أولًا بالقراءات العشر الصغرى، أما القراءات العشر التي حررها ابن الجزري بالطرق التي لم يستوعبها من سبقه فاصطلح عليها بالقراءات العشر الكبرى.

وقد كان الإمام ابن الجزري -رحمه الله- إمامًا حافظًا، عاش حياة طويلة حافلة بالتنقل والترحال، والدرس والأخذ عن الشيوخ، وقراءة الكتب عليهم، وحلقات التعليم والإقراء، والكتابة والتأليف، ويعد هذا الإمام محقق علم القراءات ورائد نهضة علومها في زمانه، كما أن إضافاته في علم التجويد بالتأليف من أنفس ما كتب.

ومنظومته: المقدمة فيما يجب على قارئ القرآن أن يعلمه، المعروفة بـ “الجزرية” هي من أشهر متون علم التجويد، ولها شروح كثيرة، والدارسون لعلم التجويد لا بد وأن يمروا عليها.

يقول الإمام ابن الجزري عن نفسه متحدثًا بفضل الله عليه في غزارة علمه وضبطه لهذا الفن وتشجيعه طلبة العلم أن يأتوا إليه فيأخذوا عنه هذا العلم: مع أني ألتزم أنه من جاءني من طلبة القراءات فإني أقرئه جميع القرآن بالقراءات العشر بمضمن النشر والطيبة، وما دخل فيها في شهر واحد إلا أن تكون إعاقته من نفسه، فغاية ما يغيب واحد منكم عن بلده ثلاثةُ أشهرٍ، ويعود إمامًا لا يشاركه في علمه بهذا الفن أحد، الذي لا أعلم أحدًا اليوم على وجه الأرض يعرفه إلا من قرأه عليَّ.

وقال عنه تلميذه ابن حجر في كتابه إنباء الغمر: الحافظ الإمام، المقرئ، شمس الدين، انتهت إليه رئاسة علم القراءات في الممالك، وكان يُلَقَّبُ في بلاده: الإمام الأعظم.

ومما يحكى عن هذا العَلَمِ؛ عنايته الشديدة بأولاده إناثًا وذكورًا، حتى أنه ترجم لأربعة منهم في كتابه الفذ “غاية النهاية في طبقات القراء”. ونذكر منهم؛ بنته سلمى بنت محمد بن محمد بن محمد الجزري، فإنها حظيت من بين أخواتها بترجمة في كتاب أبيها: “غاية النهاية”، فقد حفظت القرآن في سنٍ مبكرة، وحفظت “مقدمة التجويد” وعرضتها، و”مقدمة النحو”، و”طيبة النشر”، و”الألفية”، وعرضت القرآن على أبيها بالقراءات العشر قراءة صحيحة مجودة مشتملة على جميع أوجه القراءات، وتعلمت العروض والعربية، ونظمت بالعربية والفارسية.

وكذا كان حال بقية أولاده؛ كما قال عنهم طاش كبري زاده: وجميع هؤلاء من القراء المجودين والمرتلين، ومن الحفاظ المحدثين، فطاب أصلٌ هؤلاء فروعه، وطوبى لفروعٍ هذا أصلهم، ويا حبذا بيت هؤلاء أهله، وفخرًا لساكن مثل هذا البيت محله، رضي الله عنهم وأرضاهم.


– (القراء العشرة ورواتهم)

وبهذا انحصر المقبول من القراءات المتواترة عن النبي ﷺ في هذه القراءات العشر، التي ابتدئها ابن مجاهد في كتابه السبعة وأكمل عليها ابن الجزري فيما بعد في كتابه النشر، وهم:

الإمام نافع المدني وراوياه قالون وورش، وقراءة نافع ترجع إلى أبي بن كعب.

الإمام ابن كثير المكي وراوياه البزي وقنبل، وقراءة ابن كثير ترجع إلى أبي بن كعب وزيد ابن ثابت.

الإمام أبو عمرو البصري وراوياه الدوري والسوسي، وقراءة أبي عمرو ترجع إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت.

الإمام ابن عامر الدمشقي وراوياه هشام وابن ذكوان، وقراءة ابن عامر ترجع إلى عثمان بن عفان وأبي الدرداء.

الإمام عاصم الكوفي وراوياه شعبة وحفص، وقراءة عاصم ترجع إلى علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان، وأبي، وزيد.

الإمام حمزة الكوفي وراوياه خلف وخلاد، وقراءة حمزة ترجع إلى علي وابن مسعود.

الإمام الكسائي الكوفي وراوياه أبو الحارث والدوري، وقراءة الكسائي ترجع إلى علي وابن مسعود.

الإمام أبو جعفر المدني وراوياه ابن وردان وابن جماز، وقراءة أبي جعفر ترجع إلى أبي وزيد.

الإمام يعقوب الحضرمي وراوياه رويس وروح، وقراءة يعقوب ترجع إلى أبي وزيد وأبي موسى الأشعري.

وأخيرًا الإمام خلف البزار وراوياه إسحاق وإدريس، وقراءته ترجع إلى أبي وزيد.

وأصبح ما زاد على هذه القراءات العشر يعد من القراءات الشاذة التي لم يتحقق فيها شروط التواتر التي وضعها الأئمة المتقدمون كابن مجاهد ومن بعده ابن الجزري في اختياراتهم والتي تتابع قبولها في الأمة.

وعليه فمن قرأ في الصلاة بأي رواية من الروايات العشرين الواردة عن القراء العشرة فقد أصاب، فالقراءات العشر المتواترة كلها القرآن. على أنه ينبغي للإمام إن أراد الصلاة برواية أخرى غير التي قد تعاهد عليها أهل بلده أن ينبههم قبل الصلاة أنه سيقرأ بروية كذا دفعًا للاستغراب وتوهم الخطأ، فلربما سارع بعض المصلين بالفتح على الإمام ليصوب له والإمام لم يخطئ.

كما أن الإمام إن كان عالمًا بالقراءات متقنًا لأدائها فإنه يحسن به الصلاة بها، وإسماع المسلمين لها، فإن في هذا إحياء لسنة القراءة بالقراءات المتواترة التي قرأ بها النبي ﷺ وأسمعها لصحابته رضوان الله عليهم، وإعلام للمسلمين بتعدد قراءات القرآن، وربما كان هذا تشجيعًا لهم ليتعلموا هذا العلم، وفي هذا أجر عظيم وثواب جزيل.

فالحمد لله الذي هيأ لهذا الكتاب رجالًا حفظوه للأمة غضًا طريًا كما أنزل على نبيه ﷺ، فالحمد لله القائل: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.


خارطة القراءات في العالم الإسلامي:

يرى الناظر في تاريخ علم القراءات أن انتشار بعض الروايات في أزمانٍ وأقاليمَ معينةٍ يعود إلى عدد من الأسباب، منها:

  • توطن القارئ أو الراوي في بلد، وشيوع قراءته في هذا الإقليم، كابن عامر -رحمه الله- الذي توفي سنة (١١٨ هــ) وله من العمر سبع وتسعون سنة، والذي ولي القضاء بدمشق وكان إمام الجامع بها.
  • ومنها عدم تمكين القارئ الناس من القراءة عليه؛ لعلة يراها، كما فعل شعبة بن عياش (ت:193هــ) الراوي عن عاصم، فقلت قراءة أهل الكوفة لرواية شعبة وصار الغالب عليهم قراءة حمزة بن حبيب الزيات.
  • ومنها انتقال نقلة القراءة من بلد إلى بلد آخر، مثلما حصل لقراءة الإمام نافع رحمه الله، عندما انتقل كثير من رواتها من الحجاز ومصر إلى المغرب وإفريقية، بحيث أصبحت قراءة نافع هي الفاشية في تلك الديار.
  • ومنها النقل المزدوج للقراءة والمذهب الفقهي عند النقلة الأوائل للقراءة، ورغبة المتفقهة القراءة بقراءة إمامهم في الفقه؛ كالإمام مالك -رحمه الله- الذي أخذ القراءة عن الإمام نافع المدني، وكان يقول :”قراءة نافع سنة”.
  • وكذلك إشاعة قراءةٍ من قِبَلِ أحد العلماء، كما حدث من سُبيع بن المُسَلَّم المعروف بابن قيراط (ت:٥٠٨ هــ) شيخ دمشق ومقرئها الضرير، الذي نشر قراءة الإمام أبي عمرو البصري في الشام.
  • وكذلك تدخل ذوي السلطان من الأمراء، والقضاة، والواقفين ونحوهم في تعليم قراءة القرآن أو القراءة برواية أو قراءة ما.
  • ومنها اليسر والسهولة في القراءة أو الراوية؛ مما يجعل تلقينها وتعلمها وانتشارها متاحًا وميسرًا، كما نرى اليوم من انتشار رواية حفص عن عاصم.
  • ولا نغفل أن الامتداد الزمني والجغرافي للخلافة العثمانية، مع الاهتمام البالغ من الأتراك بالخط العربي، وتوظيف خط النسخ في كتابة المصاحف وفق رواية حفص عن عاصم، وبخاصة المصاحف التي كتبها كبار الخطاطين الأتراك؛ كالحافظ عثمان (ت: ١١١٠ هــ)، وشميشر الحافظ (ت: ١٢٣٦ هــ)، ثم ظهور المطابع فطبعت منها المصاحف، كل ذلك ساعد على انتشار رواية حفص في الأمصار والأقاليم الشرقية من العالم الإسلامي.

وتعد الروايات المشتهرة على مستوى عامة الناس اليوم أربع روايات:

حفص عن عاصم؛ وهي الرواية التي عليها معظم العالم الإسلامي: في الشرق العربي، وجنوب آسيا، وشبه القارة الهندية، وتركيا، وإيران، وأفغانستان، والجمهوريات الإسلامية في روسيا.

وقد كان أهل مصر يقرؤون برواية ورش عن نافع إلى أواخر القرن الخامس الهجري، ثم انتقلوا إلى قراءة أبي عمرو البصري، واستمر العمل عليها قراءة وكتابة في مصاحفهم إلى منتصف القرن الثاني عشر الهجري، كما صرح بذلك العلَّامة الضباع في كتابه “الإضاءة في بيان أصول القراءة”.

رواية ورش عن نافع؛ وتنتشر القراءة بها في المغرب العربي على وجه العموم، وبعض الدول الإفريقية، مثل: تشاد، ونيجيريا.

رواية قالون عن نافع؛ وتشتهر في ليبيا، وبعض الدول المغاربية؛ كتونس، والجزائر، وفي جزء من إفريقية؛ كموريتانيا.

رواية الدوري عن أبي عمرو البصري؛ ويُقرأ بها في الصومال، وتشاد، والريف السوداني.

أنواع القراءات:

وضع العلماء شروطًا لصحة القراءة وقبولها والجزم بأن النبي ﷺ قد قرأ بها ولم تُنسخ في العرضة الأخيرة، وهي:

– التواتر أو صحة الإسناد

– أن توافق رسم أحد المصاحف العثمانية التي أرسلها عثمان إلى الأمصار.

– أن توافق وجهًا من وجوه اللغة العربية.

وعليه فمتى تحقق في القراءة هذه الشروط الثلاثة حكم بتواترها كما في القراءات العشر حصرًا، ومتى خالفت القراءة أحد هذه الشروط حكم عليها بأنها قراءة شاذة وهو ما زاد عن القراءات العشر.

وهنا السؤال؛ ما الأسباب التي أدت إلى وجود قراءة تخالف هذه الشروط؟

والجواب: إن كثيرًا من الصحابة القراء لم يشهد العرضة الأخيرة للقرآن ولم يعلم ما نُسخ فيها من القرآن، فظل يقرأ به ويُقرئه. فقد تكون القراءة منسوخة ولم يعلم الصحابي الراوي بنسخها لعدم شهوده العرضة الأخيرة فاستمر إقراؤه بها، أو أنه علم بنسخها وتوقف عن القراءة بها لكنها ظلت تُنقل عنه.

كما أن بعض الصحابة كان يكتب في مصحفه الخاص بعض التفسيرات ويدرج في مصحفه بعض الإضافات على وجه التفسير، ثم أشيعت وانتشرت على أنها آية.

وبعض القراءات هي مكذوبة ولا أصل لها ولا إسناد، كالقراءة التي يذكرها الشيعة ويدعون إسقاطها من سورة الشرح، وهي: (وجعلنا عليا صهرك)، وقولهم: (وما كنت متخذ المضليْن عضدًا) فيجعلونها بالتثنية لا بلفظ الجمع يقصدون بهذا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. والقراءة التي يذكرها المعتزلة: (وكلم اللهَ موسى تكليمًا) بنصب الهاء، لإثبات أن الكلام كان من موسى لربه لينفوا عن الله تعالى صفة الكلام انتصارًا لبدعتهم. وهذه القراءات موضوعة لا أصل لها.

لذلك كان دور أئمة الإقراء بعدما قل الضبط في المائة الثالثة من الهجرة أن يميزوا بين المقبول والمردود من القراءات ليحفظوا المتواتر منها للأمة من بعدهم، فاستقر قولهم على أن المتواتر هو القراءات العشر وما وراءها فهو من القراءات الشاذة التي لا يجوز التعبد بها في الصلاة، ويجوز الاستعانة بها فقط في التفسير واستنباط الأحكام الفقيهة على قول أهل العلم بضوابط معروفة عندهم، لأن كون القراءة الشاذة ليست قرآنًا لا يعني ذلك نفيًا لخبريتها ودلالتها في اللغة، خاصة إن كان الراوي لها من الثقات.

القراءات والتفسير:

المتأمل لاختلاف القراءات يجدها بابًا عظيمًا في إظهار البلاغة، فمع كثرته وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد، ولا تناقض، ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضًا، ويبين بعضه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد، وأسلوب واحد، فأنت إذا قرأت الكلمة القرآنية بقراءات متعددة فإنها تدلك على معانٍ وأحكام شرعية متعددة دون تكرار اللفظ وإعادة الخط.

وقد يكون اختلاف القراءات بدلالة واحدة، وقد يكون لكل قراءة دلالة واعتبار، وكلاهما مراد، وليس أحدهما أولى بالآخر. وتأمل هذين المثالين؛ في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾

هنا قرأ ابن عامر: ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ بالتخفيف من أَمْتَعْتُ، وقرأ الباقون: بتشديد التاء من مَتَّعْتُ.
فقراءة التخفيف لها ما يوافقها في واقع الأمر، وفي دلالة اللفظ الظاهر، أي: التعبير بالوصف: ﴿قَلِيلًا﴾. وقراءة التشديد لها ما يوافقها من حال الكفار ورؤيتهم القاصرة، فالكافر يُزَيَّنُ له كثرة المتاع وإن قل، ويتوهمه مستمرًا وإن كان أمده في الدنيا قصيرًا. وقد قال جلَّ في علاه: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ فهنا ينبغي التنبه إلى أن تنوع الدلالات مقصود وله اعتبار.

وفي قوله تعالى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ﴾ ففي المتواتر: ﴿ فنُنْجِي مَن نَّشَا ﴾، وفي هذا التنوع بيان لسنة الله تعالى في القرون السالفة، وديمومة هذه السنة في المستقبل.

وهذا من إعجاز القرآن بلا شك، ويستفيد منه الباحث في أي فرع من فروع العلم؛ سواءً الفقه، أو الحديث، أو العقيدة، أو علوم اللغة.

والوقوف عند اختلاف القراءة والتأمل في توجيهه من حيث اللغة من أعظم أبواب التمتع بكلام الله تعالى، وهو ما كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين من بعدهم، وهناك علم خاص يُعنى بهذا الباب يسمى علم توجيه القراءات، وفيه مصنفات كثيرة؛ ككتاب “الحجة في القراءات السبع” لأبي علي الفارسي، وكتاب “الحجة في القراءات السبع” لابن خالويه، وكتاب “حجة القراءات” لابن زنجلة، ومن الكتب المعاصرة كتاب “الكشف عن مشكل القراءات العشرية الفرشية” للدكتور عبد العزيز الحربي.

القراءات وعلم التجويد:

عُرِّف التجويد عند أهل الفن بأنه: إعطاء الحرف حقه ومستحقه. وأما ما في الحرف من أوجه القراءة فهذا من علم القراءات، ولذا قال مكي بن أبي طالب: ولست أذكر فيه -يعني كتابه الرعاية- إلا ما لا اختلاف فيه بين أكثر القرَّاء، فيجب على كل من قرأ بأيِّ حرف ٍكان من السبعة؛ أن يأخذ نفسه بتحقيق اللفظ وتجويده، وإعطائه حقه على ما نذكره مع كل حرف في هذا الكتاب.

وقال في موضع آخر: وقد تقدَّم ذكرُ أصول القرَّاء واختلافهم في الهمز، وغير ذلك من أحكام بغير هذا الكتاب فلا حاجة لنا بذكر ذلك، وكذلك ما شابهه فليس هذا كتاب اختلافٍ، وإنما هو كتاب تجويد ألفاظٍ ووقوفٍ على حقائقِ الكلام، وإعطاء اللفظ حقه ومعرفة أحكام الحروف التي ينشأ الكلام منها مما لا اختلاف في أكثره.

وقد اعتمد محمد بن أبي بكر المرعشي على كلام مكي بن أبي طالب، فقال: القراءات علمٌ يُعرف فيه اختلاف أئمة الأمصار في نظم القرآن في نفس حروفه أو في صفاتها، أما التجويد فالغرض منه معرفة ماهيات صفات الحروف.

وقال أيضًا: اعلم أن علم القراءة يخالف علم التجويد، إذ أن المقصود من الثاني معرفة حقائق صفات الحروف، مع قطع النظر عن الخلاف فيها، مثلًا يُعرفُ في علم التجويد أن حقيقة التفخيم كذا وحقيقة الترقيق كذا، وفي القراءة يُعرَفُ فخَّمها فلان ورقَّقها فلان.

وخلاصة القول: إن التجويد: هو تحسين اللفظ، وإعطاء كل حرف حقه من المخرج والصفات، وما يلحقه في التركيب من أحكام، والقراءات: هي بيان الأوجه الواردة في اللفظ، وضبط وجوه النطق بها. والرابط بين علم التجويد وعلم القراءات؛ أن كليهما مرتبطٌ بأحرف القرآن، ولكلٍ منهما تميُّزٌ واختصاصٌ.

لمحات من سير أعلام القرَّاء :

  1. روي عن سليمان بن جماز -راوي الإمام أبي جعفر-: شهدت أبا جعفرٍ حين حضرته الوفاة، فجاءه أبو حازمٍ الأعرج، ومشيخة معه كانوا من جلسائه، فانكبوا عليه يصرخون، فلم يجبهم، فقال شيبة: ألا أريكم عجبًا؟ قالوا: بلى، قال: فكشف عن صدره، وإذا دوارةٌ بيضاء مثل اللبن، فقال أبو حازمٍ وأصحابه: هذا -والله- نور القرآن.

    وقال نافعٌ: لما غُسِّل أبو جعفر القارئ بعد وفاته نظروا، فإذا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شكَّ أحدٌ ممن حضر أنه نور القرآن.
  2. وكان الإمام نافع -رحمه الله- إذا تكلم يُشمُّ من فِيهِ رائحة المسك، فسئل: أتتطيب كلما قعدت تقرئ الناس؟ قال: ما أَمَسُّ طيبًا، ولكني رأيت فيما يرى النائم النبيﷺ، وهو يقرأ القرآن في فيَّ، فمن ذلك الوقت أشمُّ في فيَّ هذه الرائحة.

    وقال المُسيَّبيُّ: قيل لنافع: ما أصبحَ وجهك وأحسن خلقك! قال: كيف لا أكون كذلك، وقد صافحني رسول الله ﷺ، وعليه قرأت القرآن في النوم.
  3. وقال أبو محمد البغدادي عن قالون: كان قالون أصمَّ شديد الصمم، لا يسمع البوق، فإذا قرئ عليه القرآن سمعه.

    وكان قالون يُقرأ عليه القرآن، فينظر إلى شفتي القارئ، فيفهم خطأه إن أخطأ، فيردَّ عليه اللحن والخطأ في القراءة.
  4. كان أبو عمرو البصري صاحب زهدٍ وتقوى، يراقب الله ويخشاه، وقد استمر مدة طويلة يختم المصحف في كلِّ ثلاث ليالٍ، وعليه قرأ عبد الله بن المبارك، والخليل بن أحمد، والأصمعي، وسيبويه، وغيرهم.
    وكان قد نقش على فصِّ خاتمه هذا البيت:

    وإنَّ امرأً دنياه أكبرُ همِّه
    لمستمسكٌ منها بحَبلِ غرورِ

  5. قال أبو بكرٍ شعبة بن عَيَّاشٍ: قال لي عاصمٌ: مرضت سنتين، فلما قمت قرأت القرآن، فما أخطأت حرفًا!
  6. قال يحيى اليماني: لما حضرت الوفاة أبا بكرشعبة  بن عياش بكت أخته، فقال لها: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية، فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة!
  7. وهذا الإمام حمزة الزيات؛ شهد له العلماء بالفضل والعلم، وكان شيخه الأعمش إذا رآه مقبلًا يقول: (هذا حبر القرآن)، ورآه يومًا مقبلًا، فقال: (وبشِّر المحسنين).

    وروي عن سفيان الثوري: ما قرأ حمزة حرفًا من كتاب الله إلا بأثر.
  8. وقال بعض العلماء عن الإمام الكسائي: كان الكسائي إذا قرأ القرآن أو تكلم كأن ملكًا ينطق على فِيهِ.
  9. قرأ الإمام ابن الصائغ وهو صغير السن على الإمام ابن ناشرة المصري، فلما وصل معه إلى سورة الفجر، منعه من الختم لأنه استصغره على الإجازة، فالتجأ ابن الصائغ إلى الشيخ كمال الدين أبي الحسن بن شجاع الضرير الذي تدخل عند ابن ناشرة قائلًا له: اسمع؛ نحن نجيز من دبَّ ودَرَج، فعسى أن يَنبُلَ منهم شخص ينفع الناس ونُذكَرَ به، وما يدريك أن يكون هذا منهم.
    وقد كان؛ فهذا الصبي صار مسند عصره ورحلة وقته وشيخ زمانه وإمام أوانه. وعُمِّر حتى لم يبق معه من يشاركه في شيوخه، ورحل إليه الخلق من الأقطار وازدحم الناس عليه لعلو سنده وكثرة مروياته، وجلس للإقراء بمدرسته الطيبرسية بمصر والجامع العتيق ولازم الإقراء ليلاً نهارًا، فقرأ عليه خلق لا يحصون!
  10. وانظر إلى هذا العَلَم وهو يوسف بن علي بن جبارة بن محمد بن عقيل أبو القاسم الهذلي، المعروف بأبي القاسم الهُذلي، أحد أئمة الإقراء، رحمه الله تعالى.
    طاف البلاد في طلب القراءات، ويقول عنه شيخ القراء ابن الجزري رحمه الله تعالى: لا أعلم أحدًا في هذه الأمة رحل في القراءات رحلته! ولا لقي من لقي من الشيوخ!

    ويقول هو عن نفسه: فجملة من لقيت في هذا العلم، ثلاثمائة وخمسة وستون شيخًا، من آخر المغرب إلى باب فرغانة يمينًا، وشمالًا، وجبلًا، وبحرًا، ولو علمت أحدًا تقدم علي في هذه الطبقة في جميع بلاد الإسلام لقصدته!

 

(خاتمة)

هذا وإني لأرجو أن تكون هذه الكلمات دافعًا لقارئها إلى الإبحار في هذا العلم العظيم، ولعمري إن الوقوف عند اختلاف القراءة لهو من أعظم أبواب التمتع بكلام الله سبحانه، وطالب هذا العلم نال من النعيم وذاق من الحلاوة ما تحار منه العقول حقًا. فإن أعجزك الحال عن طلبه فلا أقل من النظر فيه والتأمل في عجائبه.


وصلى الله على محمد وآله، والحمد لله رب العالمين.

 

"منقول من موقع أثارة"

 

 

إدريس

اسمه:

إدريس بن عبد الكريم الحداد أبو الحسن البغدادي، إمام ضابط متقن ثقة.

 

شيوخه:

قرأ على خلف اختياره، وعن خلف عن قتيبة عن الكسائي، وعلى محمد بن حبيب الشموني، وروى عن أحمد بن حنبل.

 

تلاميذه:

أخذ عنه سماعاً ابن مجاهد، وعرضاً محمد بن أحمد بن شنبوذ، وموسى بن عبيدالله الخاقاني، وابن مقسم،وإبراهيم بن الحسين الشطي ، والحسن بن سعيد المطوعي، وأحمد بن بويان، وأحمد بن جعفر القطيعي وغيرهم.

 

إسناد رواية إدريس:

رواها الإمام أبو الخيرمحمد بن محمد بن الجزري، عن أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد الواسطي ، عن محمد بن أحمد بن عبد الخالق المعدل ، عن أبي
إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فارس التميمي ، عن أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي ، عن أبي محمد عبد الله بن علي البغدادي وقرأ على شيخين الأول أبي المعالي ثابت بن بندار بن إبراهيم البقال، عن القاضي أبي العلاء محمد بن أحمد بن علي ابن يعقوب الواسطي ، عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي.
والثاني أبي الفضل عبد القاهرالعباسي عن أبي عبد الله محمد بن الحسن الكارزيني عن أبي العباس الحسن بن سعيد المطوعي ، وقرأ هو والقطيعي على أبي الحسن إدريس بن عبد الكريم البغدادي الحداد.

 

وفاته:

توفي سنة ٢٩٢ هـ

 

 

 

إسحاق

اسمه و نسبه:

إسحاق بن إبراهيم بن عثمان بن عبد الله، أبو يعقوب المروزي البغدادي.
وَرَّاق خلف، وراوي اختياره عنه، ثقة ضابط متقن، كان منفرداً برواية اختيار خلف لا يعرف غيره.

 

شيوخه:

قرأ على خلف اختياره وقام به بعده، وقرأ على الوليد بن مسلم. تلاميذه:ابنه محمد بن إسحاق، ومحمد بن عبد الله النقاش، والحسن بن عثمان البرصاطي، ومحمد بن أحمد بن شنبوذ، وعلي بن موسى الثقفي.

 

إسناد رواية إسحاق:

رواها الإمام أبو الخيرمحمد بن محمد بن الجزري، عن أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد البغدادي، عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الخالق الصائغ ، عن أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فارس التميمي،عن أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي ، عن أبي القاسم هبة الله بن أحمد بن الطبري البغدادي ، عن أبي بكر محمد بن علي بن موسى الخياط ، عن أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن الخضر السوسنجري ، عن أبي الحسن محمد بن عبد الله بن محمد الطوسي ،عن أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم الوراق ، عن أبي محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزار

 

وفاته:

توفي سنة 286 هـ

 

 

 

الإمام خلف البزار (خلف العاشر)

اسمه ونسبه:

الثقة الكبير الزاهد العابد العالم الإمام خلف بن هشام بن ثعلب ابن خلف، أبو محمد الأسدي البغدادي البزار، أحد القراء العشرة المعروفين، وأحد الرواة عن سليم عن حمزة الزيات.
أصله من (فم الصلح) والصلح كورة فوق واسط لها نهر يستمد من دجلة على الجانب الشرقي يسمى (فم الصلح).

 

مولده ونشأته العلمية:

ولد سنة (١٥٠ هـ) وعرف منذ صغره بالذكاء والنباهة، فقد أتم حفظ القرآن وهو ابن عشر سنين، وهي سنّ مبكرة، حفظ القرآن عندها كثير من العلماء المتقنين وهذا يعني أهمية العناية بالصغار ليحفظوا ويتقنوا، لأن أذهانهم أقدر على الحفظ والاستظهار.
وبدأ بطلب العلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فبرع وتقدم حتى شهد له سليم ابن عيسى صاحب حمزة بأنه لم يخلف ببغداد من هو أقرأ منه.
وقد أعانه على طلب العلم همة وقادة وقلب سئول، ورغبة قوية في التعلم والتلقي والأخذ عن العلماء، وكان له من الغنى واليسار ما يذلل له الصعوبات التي كثيرا ما تكون عقبة أمام طلبة العلم.
وكان سخيا بماله، يبذله على التعلّم وفهم المسائل، حتى ليكاد من يطالع سيرته يرميه بالإسراف، ومما يدل على ذلك قوله:
«أشكل عليّ باب من النحو فأنفقت ثمانين ألف درهم حتى حفظته أو قال عرفته» ويدل على ذلك أيضا أنه كان يكلف الوراقين بالكتابة له، بل كان له ورّاق مختص به هو أحمد بن إبراهيم المعروف ب (ورّاق خلف) وكذا أخوه إسحاق بن إبراهيم الذي روى عن خلف اختياره.
ولم يقتصر خلف في طلبه على مدرسة واحدة من مدارس القراء بل أخذ قراءة أهل المدينة عن إسحاق المسيبي عن نافع بن أبي نعيم، وقراءة أهل مكة عن عبيد بن عقيل عن شبل بن عباد عن ابن كثير، وقراءة أهل البصرة عن عبد الوهاب بن عطاء عن أبي عمرو البصري وقراءة عاصم الكوفي عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن عاصم، وأخذ عن سليم عن حمزة، وقال خلف أيضا: كنت أحضر بين يدي عليّ بن حمزة الكسائي وهو يقرأ على الناس، وينقطون مصاحفهم بقراءته.
وقد بلغ من حرصه وشدة تحريه أنه قال: قرأت على سليم بن عيسى القرآن مرارا كثيرة، وكنت أسأله عند الفراغ من القرآن، أأروي عنك بهذه القراءة التي قرأتها عليك عن حمزة؟ فيقول: نعم، قال: وسمعته يقول: قرأت القرآن على حمزة عشر مرات.

 

قراءته واختياره:

كان حرص العلماء على تلقي قراءة خلف والأخذ عنه دليلا على ثقتهم بعلمه وصحة نقله وروايته، بل كان بعضهم يرى أن خلفا أضبط الناس للقراءة وأقومهم بها، قال مسلمة بن عاصم (صاحب الفرّاء): «كتبت الحروف من غير وجه، ما اعتمدت إلا على ما حدّثني به خلف بن هشام البزار، لأنه يقرأ كيف أخذ وكيف أدّى» ولأنه كان من العلماء بوجوه القراءات واختلاف الروايات فقد «اختار اختيارا حسنا غير خارج عن الأثر» والمقصود أنه استقل بقراءة يقرأ بها حتى صارت منهجا ومدرسة، بعد أن كان راويا من رواة قراءة حمزة.
وفي اختياره خالف حمزة في مائة وعشرين حرفا.
قال ابن الجزري: «تتبعت اختياره فلم أره يخرج عن قراءة الكوفيين في حرف واحد بل ولا عن حمزة والكسائي وأبي بكر إلا في حرف واحد وهو قوله تعالى في الأنبياء: (وحرام على قرية) قرأها كحفص والجماعة بألف، وروى عنه أبو العز القلانسي في إرشاده السكت بين السورتين فخالف الكوفيين».
واشتهرت قراءة خلف شهرة فائقة في بعض البلاد، وفي هذا يقول أبو الحسن محمد بن عبد الله النقاش الحربي:
فأول من قرأت عليه إسحاق بن إبراهيم المروزي وقرأ على خلف وقرأ على سليم وقرأ على حمزة وكان لا يقرأ ولا يقرئ إلا بهذا الحرف لا يحسن غيره، فخلفه ابنه محمد فقرأت عليه أيضا ... وقرأت بعده على جماعة منهم أبو الحسن علي بن محمد بن نيزك، وأبو الحسن محمد بن إبراهيم، وإبراهيم بن إسحاق المعروف بغلام جلّان، وأبو بكر بن أسد المؤدب باختيار خلف كله.

قال: ولم يكن يعرف عندنا بالربض غير اختياره ولا يقرأ إلا به.

 

شيوخه:

أما شيوخه الذين قرأ عليهم فهم كثيرون منهم سليم بن عيسى، وعبد الرحمن بن أبي حماد، ويعقوب بن خليفة الأعشى، وأبو زيد سعيد بن أوس، وروى الحروف عن إسحاق المسيبي، وإسماعيل بن جعفر، وعبد الوهاب بن عطاء، ويحيى بن آدم، وعبيد بن عقيل، وروى رواية قتيبة عنه، وسمع من الكسائي الحروف، ولم يقرأ عليه القرآن.
قال أبو علي الأهوازي في مفردة الكسائي قال الفضل بن شاذان عن خلف: إنه قرأ على الكسائي، والمشهور عند أهل النقل لهذا الشأن أنه لم يقرأ عليه وإنما سأله عنها وسمعه يقرأ القرآن إلى خاتمته وضبط ذلك عنه بقراءته عليهم.

 

تلاميذه:

روى عنه القراءة كثيرون عرضا وسماعا، فمنهم: ورّاقة أحمد بن إبراهيم، وأخوه إسحاق بن إبراهيم، وإبراهيم بن علي القصار، وأحمد بن يزيد الحلواني، وإدريس بن عبد الكريم الحداد، وأحمد بن زهير، وسلمة بن عاصم، وأحمد بن البرائي، وعبد الله بن عاصم شيخ الغضائري، وعلي بن الحسين بن سلم ومحمد بن إسحاق شيخ ابن شنبوذ، ومحمد بن الجهم، ومحمد بن مخلد الأنصاري، ومحمد بن عيسى، والفضل بن أحمد الزبيدي، وعلي بن محمد بن نازك، وإبراهيم ابن إسحاق، ومحمد بن إبراهيم، ومحمد بن سعيد الضرير، وأبو بكر بن أسد المؤدب، وعبيد بن عقيل، وعبد الوهاب بن عطاء، وموسى بن عيسى، وأبو الوليد عبد الملك بن القاسم، وعمر بن فائد فيما ذكره الهذلي.
وكان رجلا صدوقا صالحا كثير العلم والرواية عن السلف، عالما بوجوه قراءات الأئمة وله كتاب حسن صنفه في القراءات.

 

وفاته:

توفي ببغداد سنة ٢٢٩ هـ وهو مختف من الجهمية. رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والقرآن خير الجزاء.

 

 

 

رَوْح

هو: أبو الحسن روح بن عبد المؤمن الهذلي البصري النحوي، عرض على يعقوب الحضرمي، وكان مقرئاً جليلاً ثقة ضابطاً مشهوراً، من أجل أصحاب يعقوب وأوثقهم. روى عنه البخاري في صحيحه. توفي سنة أربع أو خمس وثلاثين ومائتين.

إسناد رواية روح:

قرأ روح على إمام البصرة أبي محمد يعقوب بن إسحاق الحضرمي.

طريقا روح:

لروح طريقان رويت قراءته عنهما من غير واسطة: الأول: طريق ابن وهب ، والثاني: طريق الزبيري. ولكل طريق من عدة طرق، فمجموع طرق روح أربع وأربعون طريقاً.

 

 

 

رويس

هو: أبو عبد الله محمد بن المتوكل اللؤلؤي البصري، الملقب (رويس). مقرئ حاذق ضابط مشهور، أخذ القراءة عن يعقوب الحضرمي من غير واسطة. قال عنه الداني: (وهو من أحذق أصحابه). كان إماماً في القراءة قيما بها ماهراً ضابطاً مشهوراً حاذقاً. روى القراءة عنه عرضاً محمد بن هارون التمار والإمام أبو عبد الله الزبير بن أحمد الزبيري الشافعي، قال الأستاذ أبو عبد الله القصاع: (كان يعني رويساً مشهوراً جليلاً)، وروى عن فارس عن السامري قال لي أبو بكر التمار: (كان رويس يأخذ عن المبتدئين بتحقيق الهمزتين معاً في نحو (أأنذرتهم) و (جاء أجلهم) ونظائره، وكان يأخذ على الماهر بتخفيف الهمزة الثانية. قال السامري: (وأقرأني التمار بتحقيق الهمزتين معاً، قلت: والتحقيق عن رويس في الهمزتين غير معروف فهو مما انفرد به السامري والله أعلم)، قال الزهري: (وسألت أبا حاتم عن رويس هل قرأ على يعقوب فقال نعم قرأ معنا وختم عليه ختمات). توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين في مدينة البصرة.

إسناد رواية رويس:

قرأ رويس على إمام البصرة أبي محمد يعقوب بن إسحاق الحضرمي.

طرق رويس:

لرويس أربعة طرق رويت قراءته عنهم: الأول: طريق النخاس، والثاني: طريق أبي الطيب، والثالث: طريق ابن مقسم، والرابع: طريق الجوهري. أربعتهم عن التمار. وكل طريق من عدة طرق، فمجموع طرق رويس واحد وأربعون طريقاً.

 

 

 

الإمام يعقوب الحضرمي

هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، مولاهم البصري، أحد القراء العشرة، وإمام أهل البصرة ومقرئها.
روى القراءة عنه عرضاً زيد بن أخيه أحمد وكعب بن إبراهيم وعمر السراج وحميد بن الوزير والمنهال بن شاذان وأبو بشر القطان ومسلم بن سفيان المفسر وروح بن عبد المؤمن ومحمد بن المتوكل ويس ومحمد بن وهب الفزاري والحسن بن مسلم الصرير وكعب بن إبراهيم وعبد الله بن بحر الساجي وأبو حاتم السجستاني وروح بن قرة وأيوب بن المتوكل وأحمد بن محمد الزجاج وأحمد ابن شاذان وعبدان بن يحيى وداود بن أبي سالم والوليد بن حسان وأبو الفتح النحوي وأبو هشام الرفاعي وأبو عمر الدوري ووردان بن إبراهيم الأثرم وأحمد بن عبد الخالق المكفوف وأبو أيوب سليمان بن عبد الله الذهبي ومحمد بن عبد الخالق وفضل بن أحمد الهذلي وعبد الله بن بحر وعامر بن عبد الأعلى الدلال وفهد بن الصقر. وروى عن شعبة وهارون ابن موسى وهمام بن يحيى وعبد العزيز بن زياد وزائدة. وروى عنه حرف أبي عمرو بن العلاء حمدان بن محمد بن يونس الكديمي.
قال أبو حاتم السجستاني: (هو أعلم من رأيت بالحروف والاختلاف في القرآن وعلله ومذاهبه ومذاهب النحو وأروى الناس لحروف القرآن ولحديث الفقهاء). وقال الداني: (وأئتم بيعقوب في اختياره عامة البصريين بعد أبي عمرو فهم أو أكثرهم على مذهبه)، وقال: (وقد سمعت طاهر بن غلبون يقول أمام الجامع بالبصرة لا يقرأ إلاَّ بقراءة يعقوب).
قال ابن أبي حاتم: (سئل أحمد بن حنبل عنه فقال صدوق وسئل عنه أبي فقال صدوق). وقال أبو الحسن بن المنادي في أول كتابه الإيجاز والاقتصار في القراءات الثمان: (كان يعقوب أقرأ أهل زمانه وكان لا يلحن في كلامه وكان السجستاني من أحد غلمانه). وقال السعيدي: (دعتني نفسي لتأليف كتاب موجز في القراءات متمماً بيعقوب بن إسحاق في القراءات كما تمم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم النبوات).
وقال ابن الجزري: (كان يعقوب من أعلم أهل زمانه بالقرآن والنحو وغيره وأبوه وجده). قال أبو عثمان المازني: (رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقرأت عليه سورة طه فقرأت ﴿ مَكَاناً سُوَى ﴾ فقال اقرأ سوى اقرأ قراءة يعقوب). وقال أبو القاسم الهذلي: (لم ير في زمن يعقوب مثله كان عالماً بالعربية ووجوهها والقرآن واختلافه فاضلاً تقياً ورعاً زاهداً، بلغ من زهده أنه سرق رداؤه عن كتفه وهو في الصلاة ولم يشعر ورد إليه ولم يشعر لشغله بالصلاة، وبلغ من جاهه بالبصرة أنه كان يحبس ويطلق).
قال البخاري وغيره: (مات في ذي الحجة سنة خمس ومائتين وله ثمان وثمانون سنة ومات أبوه عن ثمان وثمانين سنة وكذلك جده وجد أبيه رحمهم الله تعالى).

إسناد قراءة يعقوب:

قرأ يعقوب على أبي المنذر سلام بن سليمان المزني مولاهم الطويل، وعلى شهاب بن شرنفة، وعلى أبي يحيى مهدي بن ميمون المعولي، وعلى أبي الأشهب جعفر بن حيان العطاردي، وقيل إنه قرأ على أبي عمرو نفسه، وروى ابن المنادي أنه قرأ على أبي عمرو. قال أبو عبد الله القصاع: (وما ذلك ببعيد لأن أبا عمرو توفي وليعقوب سبع وثلاثون سنة). قال يعقوب: (قرأت على سلام في سنة ونصف وقرأت على شهاب بن شرنفة المجاشعي في خمسة أيام وقرأ شهاب على مسلمة بن محارب المحاربي في تسعة أيام وقرأ مسلمة على أبي الأسود الدؤلي على علي رضي الله عنه). قال ابن الجزري: (وقراءته على أبي الأشهب عن أبي رجاء عن أبي موسى في غاية العلو).
وقرأ سلام على عاصم الكوفي وعلى أبي عمرو البصري وتقدم سندهما، وقرأ سلام أيضاً على أبي المجشر عاصم ابن العجاج الجحدري البصري، وعلى أبي عبد الله يونس بن عبيد بن دينار العبقسي مولاهم البصري، وقرأ على الحسن بن أبي الحسن البصري.
وقرأ الحسن بن أبي الحسن على حطان بن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى الأشعري.
وقرأ الجحدري أيضاً على سليمان بن قتة التيمي مولاهم البصري، وقرأ على عبد الله بن عباس.
وقرأ شهاب على أبي عبد الله هارون بن موسى العتكي الأعور النحوي وعلى المعلا بن عيسى.
وقرأ هارون على عاصم الجحدري وأبي عمرو البصري بسندهما، وقرأ هارون أيضاً على عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وهو أبو جد يعقوب، وقرأ على يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم وتقدم سندهما في قراءة (أبي عمرو البصري).
وقرأ المعلا على عاصم الجحدري بسنده المتقدم.
وقرأ مهدي على شعيب بن الحجاب.
وقرأ أبو العالية الرياحي وتقدم سنده.
وقرأ أبو الأشهب على أبي رجا عمران بن ملحان العطاردي.
وقرأ أبو رجا على أبي موسى الأشعري.
وقرأ أبو موسى على رسول الله r، وهذا سند في غاية الصحة والعلو.
راويا يعقوب الحضرمي:
يعد أشهر من روى عنه القراءة راويان: الأول: رُويس، والثاني: رَوْح. فمجموع طرق يعقوب الحضرمي من الراويين خمس وثمانون طريقاً.

 

 

 

Top