Super User

وظائف شهر شعبان - المجلس الثالث في صيام آخر شعبان

ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ قال: لا قال: فإذا أفطرت فصم يومين" وفي رواية للبخاري أظنه يعني رمضان وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري: "هل صمت من سرر شعبان شيئا" وفي رواية: "فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه" وفي رواية: "يوما أو يومين" شك شعبة وروي: "من سرار الشهر".

وقد اختلف في تفسير السرار والمشهور إنه آخر الشهر يقال: سرار الشهر وسراره بكسر السين وفتحها ذكره ابن السكيت وغيره وقيل: إن الفتح أفصح قاله الفراء وسمي آخر الشهر سرارا: لاسترار القمر فيه وممن فسر السرار بآخر الشهر أبو عبيد وغيره من الأئمة وكذلك بوب عليه البخاري صيام آخر الشهر.

وأشكل هذا على كثير من العلماء في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوما فليصمه" فقال كثير من العلماء كأبي عبيد ومن تابعه كالخطابي وأكثر شراح الحديث: أن هذا الرجل الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن له عادة بصيامه أو كان قد نذره فلذلك أمره بقضائه وقالت طائفة: حديث عمران يدل على أنه يجوز صيام يوم الشك وآخر شعبان مطلقا سواء وافق عادة أو لم يوافق وإنما ينهى عنه إذا صامه بنية الرمضانية احتياطا وهذا مذهب مالك وذكر أنه القول الذي أدرك عليه أهل العلم حتى قال محمد بن مسلمة من أصحابه: يكره الأمر بفطره لئلا يعتقد وجوب الفطر قبل الشهر كما وجب بعده.

وحكى ابن عبد البر هذا القول عن أكثر علماء الأمصار وذكر محمد بن ناصر الحافظ: إن هذا هو مذهب أحمد أيضا وغلط في نقله هذا عن أحمد ولكن يشكل على هذا الحديث أبي هريرة رضي الله عنه وقوله: "إلا من كان يصوم صوما فليصمه" وقد ذكر الشافعي في كتاب مختلف الحديث احتمالا في معنى قوله: "إلا من كان يصوم صوما فليصمه" وفي رواية: "إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم" أن المراد بموافقة العادة صيامه على عادة الناس في التطوع بالصيام دون صيامه بنية الرمضانية للاحتياط.

وقالت طائفة: سر الشهر: أوله.

وخرج أبو داود في باب تقدم رمضان من حديث معاوية أنه قال: إني متقدم الشهر فمن شاء فليتقدم فسئل عن ذلك فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "صوموا الشهر وسره" ثم حكى أبو داود عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: أن سر الشهر: أوله قال أبو داود: وقال بعضهم: سره وسطه وفرق الأزهري بين سرار الشهر وسره فقال: سراره وسرره آخره وسره وسطه وهي أيام البيض وسر كل شيء جوفه.

وفي رواية لمسلم في حديث عمران بن حصين المذكور: "هل صمت من سرة هذا الشهر" وفسر ذلك: بأيام البيض قلت: لا يصح أن يفسر سرر الشهر وسراره بأوله لأن أول الشهر يشتهر فيه الهلال ويرى من أول الليل ولذلك سمى الشهر شهرا لاشتهاره وظهوره فتسمية ليالي الإشتهار ليالي السرار قلب للغة والعرف وقد أنكر العلماء ما حكاه أبو داود عن الأوزاعي منهم الخطابي وروى بإسناده عن الوليد عن الأوزاعي قال: سر الشهر: آخره وقال الهروي: المعروف أن سر الشهر آخره وفسر الخطابي حديث معاوية: "صوموا الشهر وسره" بأن المراد بالشهر الهلال فيكون المنى صوموا أول الشهر وآخره فلذلك أمر معاوية بصيام آخر الشهر.

قلت: لما روى معاوية: "صوموا الشهر وسره" وصام آخر الشهر علم أنه فسر السر بالآخر والأظهر أن المراد بالشهر شهر رمضان كله والمراد بسره آخر شعبان كما في رواية البخاري في حديث عمران أظنه يعني رمضان وأضاف السرر إلى رمضان وإن لم يكن منه كما سمى رمضان شهر عيد وإن كان العيد ليس منه لكنه يعقبه فدل حديث عمران وحديث معاوية على استحباب صيام آخر شعبان وإنما أمر بقضائه في أول شوال لأن كلا من الوقتين صيام يلي شهر رمضان فهو ملتحق برمضان في الفضل فمن فاته ما قبله صامه فيما بعده كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان وندب إلى صيام شوال.

وإنما يشكل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين إلا من له عادة أو من كان يصوم صوما وأكثر العلماء على أنه نهى عن التقدم إلا من كانت له عادة بالتطوع فيه وهو ظاهر الحديث ولم يذكر أكثر العلماء في تفسيره بذلك اختلافا وهو الذي اختاره الشافعي في تفسيره ولم يرجح ذلك الإحتمال المتقدم وعلى هذا فيرجح حديث أبي هريرة على حديث عمران فإن حديث أبي هريرة فيه نهي عام للأمة عموما فهو تشريع عام للأمة فيعمل به وأما حديث عمران فهي قضية عين في حق رجل معين فيتعين حمله على صورة صيام لا ينهى عن التقدم به جمعا بين الحدثين وأحسن ما حمل عليه: أن هذا الرجل الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم منه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم شعبان أو أكثره موافقة لصيام النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد أفطر فيه بعضه فسأله عن صيام آخره فلما أخبره أنه لم يصم آخره أمره بأن يصوم بدله بعد يوم الفطر لأن صيام أول شوال كصيام آخر شعبان وكلاهما حريم لرمضان وفيه دليل على استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام وأن يكون في أيام مشابهة للأيام التي فات فيها الصيام في الفضل وفيه دليل على أنه يجوز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان من غير فصل بينهما.

فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يصوم بنية الرمضانية احتياطا لرمضان فهذا منهي عنه وقد فعله بعض الصحابة وكأنهم لم يبلغهم النهي عنه وفرق ابن عمر بين يوم الغيم والصحو في يوم الثلاثين من شعبان وتبعه الإمام أحمد.

والثاني: أن يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة ونحو ذلك فجوزه الجمهور ونهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم مطلقا وهم طائفة من السلف وحكي كراهته أيضا عن أبي حنيفة والشافعي وفيه نظر.

والثالث: أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر منهم الحسن وإن وافق صوما كان يصومه ورخص فيه مالك ومن وافقه وفرق الشافعي والأوزاعى وأحمد وغيرهم بين أن يوافق عادة أو لا وكذلك يفرق بين صيامه بأكثر من يومين ووصله برمضان فلا يكره أيضا إلا عند من كره الإبتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان فإنه ينهى عنه إلا أن يبتدىء الصيام قبل النصف ثم يصله برمضان.

وفي الجملة فحديث أبي هريرة هو المعمول به في هذا الباب عند كثير من العلماء وانه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة ولا سبق منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلا بآخره.

ولكراهة التقدم ثلاثة معان:

أحدها: أنه على وجه الإحتياط لرمضان فينهى عن التقدم قبله لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم وخرج الطبراني وغيره عن عائشة رضي الله عنه قالت: إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[الحجرات: ١]قالت عائشة: إنما الصوم صوم الناس والفطر فطر الناس ومع هذا فكان من السلف من يتقدم للإحتياط والحديث حجة عليه.

ولهذا نهي عن صيام يوم الشك قال عمار: من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ويوم الشك هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو غيره فكان من المتقدمين من يصومه احتياطا ورخص فيه بعض الحنفية للعلماء في أنفسهم خاصة دون العامة لئلا يعتقدوا وجوبه بناء على أصلهم في أن صوم رمضان يجزىء بنية الصيام المطلق والنفل ويوم الشك هو الذي تحدث فيه برؤيته من لم يقبل قوله فأما يوم الغيم فمن العلماء من جعله يوم شك ونهى عن صيامه وهو قول الأكثرين ومنهم من صامه احتياطا وهو قول ابن عمر وكان الإمام أحمد يتابعه على ذلك وعنه في صيامه ثلاث روايات مشهورات ثالثها لا يصام إلا مع الإمام وجماعة المسلمين لئلا يقع الإفتيات عليهم والإنفراد عنهم وقال اسحاق: لا يصام يوم الغيم ولكم يتلوم بالأكل فيه إلى ضحوة النهار خشية أن يشهد برؤيته بخلاف حال الصحو فإنه يأكل فيه من غدوة.

والمعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنفل فإن جنس الفصل بين الفرائض والنوافل مشروع ولهذا حرم صيام يوم العيد ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام وخصوصا سنة الفجر قبلها فإنه يشرع الفصل بينها وبين الفريضة ولهذا يشرع صلاتها في البيت والإضطجاع بعدها.

ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي وقد أقيمت صلاة الفجر: "الصبح أربعا" وفي المسند: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "افصلوا بينها وبين المكتوبة ولا تجعلوها كصلاة الظهر" وفي سنن أبي داود: إن رجلا صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما سلم قام يشفع فوثب إليه عمر فأخذ بمنكبيه فهزه ثم قال: اجلس فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن لصلاتهم فصل فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره فقال: "أصاب الله بك يا ابن الخطاب" ومن علل بهذا فمنهم من كره وصل صوم شعبان برمضان مطلقا وروي عن ابن عمر قال: لو صمت الدهر كله لأفطرت الذي بينهما وروي فيه حديث مرفوع لا يصح والجمهور على جواز صيام ما وافق عادة لأن الزيادة إنما تخشى إذا لم يعرف سبب الصيام.

والمعنى الثالث: إنه أمر بذلك للتقوي على صيام رمضان فإن مواصلة الصيام قد تضعف عن صيام الفرض فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى التقوي على صيام رمضان وفي هذا التعليل نظر فإنه لا يكره التقدم بأكثر من ذلك ولا لمن صام الشهر كله وهو أبلغ في معنى الضعف لكن الفطر بنية التقوي لصيام رمضان حسن لمن أضعفه مواصلة الصيام كما كان عبد الله بن عمرو بن العاص يسرد الفطر أحيانا ثم يسرد الصوم ليتقوى بفطره على صومه ومنه قول بعض الصحابة إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي وفي الحديث المرفوع: "الطاعم الشاكر كالصائم الصابر" خرجه الترمذي وغيره ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام ولهذا يقولون هي أيام توديع للأكل وتسمى تنحيسا واشتقاقه من الأيام النحسات ومن قال: هو تنهيس بالهاء فهو خطأ منه ذكره ابن درستويه النحوي وذكر أن أصل ذلك متلقى من النصارى فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم وهذا كله خطأ وجهل ممن ظنه وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات وهذا هو الخسران المبين وأنشد لبعضهم:

إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار

ولا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار

وقال آخر.

جاء شعبان منذرا بالصيام ... فاسقياني راحا بماء الغمام

ومن كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه وله نصيب من قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}[لأعراف: ١٧٩]الآية وربما كره كثير منهم صيام رمضان حتى إن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه وكان للرشيد ابن سفيه فقال مرة:

دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر

فلو كان يعديني الأنام بقدرة ... على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر

فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة ومات قبل أن يدركه رمضان آخر وهؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من الصلاة والصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام وكثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه ويشق على نفسه مفارقتها لمألوفها فهو يعد الأيام والليالي ليعودوا إلى المعصية وهؤلاء مصرون على ما فعلوا وهم يعلمون فهم هلكى ومنهم من لا يصبر على المعاصي فهو يواقعها في رمضان.

وحكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة وقد رويت من وجوه وهو أنه كان مصرا على شرب الخمر فجاء في آخر يوم من شعبان وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنورا فحملها فألقاها في التنور فاحترقت وكان بعد ذلك قد تاب وتعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم سواه فمن أراد الله به خيرا حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فصار من الراشدين ومن أراد به شر خلى بينه وبين نفسه فاتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر والفسوق والعصيان فكان من الغاوين.

الحذر الحذر من المعاصي فكم سلبت من نعم وكم جلبت من نقم وكم خربت من ديار وكم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديار كم أخذت من العصاة بالثار كم محت لهم من آثار.

يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه ... عواقب الذنب تخشى وهي تنتظر

فكل نفس ستجزى بالذي كسبت ... وليس للخلق من ديانهم وزر

أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام ونهارهم صيام.

باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم.

باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: يا أهل الدار الصلاة الصلاة قالوا: طلع الفجر؟ قالت: أنتم لا تصلون إلا المكتوبة ثم جاءت الحسن فقالت: بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني قال بعض السلف: صم الدنيا واجعل فطرك الموت الدنيا كلها شهر صيام المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم واستهلوا عيد فطرهم.

وقد صمت عن لذات دهري كلها ... ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته ومن تعجل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته وشاهد ذلك قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}[الاحقاف: ٢٠]الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة".

أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك

واجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك

وليكن فطرك عند الله ... في يوم وفاتك

في حديث مرفوع خرجه ابن أبي الدنيا: "لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان كما خرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه يقول: "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين من أين يشبه هذا الزمان زمان.

وفي حديث آخر: "أتاكم رمضان سيد الشهور فمرحبا به وأهلا".

جاء شهر الصيام بالبركات ... فأكرم به من زائر هو آت

وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ببلوغ رمضان فكان إذا دخل رجب يقول: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان" خرجه الطبراني وغيره من حديث أنس قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم وقال يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا.

بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم ثم مات الثالث على فراشه بعدهما فرؤي في المنام سابقا لهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاة وأدرك رمضان فصامه؟! فوالذي نفسي بيده إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض" خرجه الإمام أحمد وغيره من رحم في رمضان فهو المرحوم ومن حرم خيره فهو المحروم ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.

أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد

فأد حقوقه قولا وفعلا ... وزادك فاتخذه للمعاد

فمن زرع الحبوب وما سقاها ... تأوه نادما يوم الحصاد

يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح.

أناس أعرضوا عنا ... بلا جرم ولا معنى

أساؤا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا

فإن عادوا لنا عدنا ... وإن خانوا فما خنا

فإن كانوا قد استغنوا ... فإنا عنهم أغنا

كم ينادي حي على الفلاح وأنت خاسر كم تدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر.

إذا رمضان أتى مقبلا ... فاقبل فبالخير يستقبل

لعلك تخطئه قابلا ... وتأتي بعذر فلا يقبل

كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله صار قبله إلى ظلمة القبر كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومؤمل غدا لا يدركه إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.

خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها: إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى وإن لكم معادا ينزل الله فيه للفصل بين عباده فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم جنة عرضها السموات والأرض ألا ترون إنكم في أسلاب الهالكين وسيرتها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين وفي كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله فتودعونه وتدعونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وسكن التراب وواجه الحساب غنيا عما خلف فقيرا إلى ما أسلف فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي ولكن أستغفر الله وأتوب إليه ثم رفع طرف ردائه وبكى حتى شهق ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه.

يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان

لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... فلا تصيره أيضا شهر عصيان

واتل القرآن وسبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح وقرآن

فاحمل على جسد ترجو النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران

كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل وجيران وإخوان

أفناهم الموت واستبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني

ومعجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان

حتى يعمر الإنسان مسكنه ... مصير مسكنه قبر لإنسان

 

* كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ط ابن حزم

 

 

وظائف شهر شعبان - المجلس الثاني في نصف شعبان

خرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان" وصححه الترمذي وغيره واختلف العلماء في صحة هذا الحديث ثم في العمل به: فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم وقالوا: هو حديث منكر منهم الرحمن بن المهدي والإمام أحمد وأبو زرعة الرازي والأثرم وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء حديثا أنكر منه ورده بحديث: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين" فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين وقال الأثرم الأحاديث كلها تخالفه يشير كلها تخالفه يشير إلى أحاديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله ووصله برمضان ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين فصار الحديث حينئذ شاذا مخالفا للأحاديث الصحيحة وقال الطحاوي هو منسوخ وحكى الإجماع على ترك العمل به وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به وقد أخذ آخرون منهم الشافعي وأصحابه ونهو عن ابتداء التطوع بالصيام بعد نصف شعبان لمن ليس له عادة ووافقهم بعض المتأخرين من أصحابنا ثم اختلفوا في علة النهي فمنهم من قال: خشية أن يزاد في شهر رمضان ما ليس منه وهذا بعيد جدا فيما بعد النصف وإنما يحتمل هذا في التقديم بيوم أو يومين ومنهم من قال: النهي للتقوى على صيام رمضان شفقة أن يضعفه ذلك عن صيام رمضان وروي ذلك عن وكيع ويرد هذا صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله أو أكثره ووصله برمضان هذا كله بالصيام بعد نصف شعبان.

وأما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر وقد ورد الأمر بصيامه من شعبان بخصوصه ففي سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلي فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر" وفي فضل ليلة نصف شعبان أحاديث أخر متعددة وقد اختلف فيها فضعفها الأكثرون وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه ومن أمثلها حديث عائشة قال: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال: "أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله" فقلت يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك فقال: " إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب" خرجه الإمام أحمد والترمذي الإمام أحمد ابن ماجه وذكر الترمذي عن البخاري أنه ضعفه.

وخرج ابن ماجه من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن أو قاتل نفس" وخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث معاذ مرفوعا ويروى من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعا: "إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى مناد: هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه فلا يسأل أحد شيئا إلا أعطيه إلا زانية بفرجها أو مشركا" وفي الباب أحاديث أخر فيها ضعف ويروى عن نوف البكالي أن عليا خرج ليلة النصف من شعبان فأكثر الخروج فيها ينظر إلى السماء فقال: إن داود عليه السلام خرج ذات ليلة في مثل هذه الساعة فنظر إلى السماء فقال إن هذه الساعة ما دعى الله أحد إلا أجابه ولا استغفره أحد من هذه الليلة إلا غفر له ما لم يكن عشارا أو ساحرا أو شاعرا أو كاهنا أو عريفا أو شرطيا أو جابيا أو صاحب كوبة أو غرطبة قال نوف: الكوبة الطبل والغرطبة: الطنبور اللهم رب داود اغفر لمن دعاك في هذه الليلة ولمن استغفرك فيها.

وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها وقد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم وافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقالوا: ذلك كله بدعة.

واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:

أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك ووافقهم إسحاق بن راهوية على ذلك وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ببدعة نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.

والثاني: أنه يكره الإجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى.

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله إلى البصرة عليك بأربع ليال من السنة فإن الله يفرغ فيهن الرحمة إفراغا أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان وليلة الفطر وليلة الأضحى وفي صحته عنه نظر.

وقال الشافعي رضي الله عنه: بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة والعيدين وأول رجب ونصف شعبان قال: وأستحب كل ما حكيت في هذه الليالي ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستحبها في رواية لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود وهو من التابعين فكذلك قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام.

وروي عن كعب قال: إن الله تعالى يبعث ليلة النصف من شعبان جبريل عليه السلام إلى الجنة فيأمرها أن تتزين ويقول: إن الله تعالى قد اعتق في ليلتك هذه عدد نجوم السماء وعدد أيام الدنيا ولياليها وعدد ورق الشجر وزنة الجبال وعدد الرمال وروى سعيد بن منصور حدثنا أبو معشر عن أبي حازم ومحمد بن قيس عن عطاء بن يسار قال: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من ليلة النصف من شعبان ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده كلهم إلا لمشرك أو مشاحن او قاطع رحم فيا من أعتق فيها من النار هنيئا لك المنحة الجسيمة ويا أيها المردود فيها جبر الله مصيبتك هذه فإنها مصيبة عظيمة.

بكيت على نفسي وحق لي البكا ... وما انا من تضييع في شك

لئن قلت أني في صنيعي محسن ... فإني في قولي لذلك ذو إفك

ليالي شعبان وليلة نصفه ... بأية حال قد تنزل لي صكي

وحق لعمري أن أديم تضرعي ... لعل إله الخلق يسمح بالفك

فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى ودعائه بغفران الذنوب وستر العيوب وتفريج الكروب وأن يقدم على ذلك التوبة فإن الله تعالى يتوب فيها على من يتوب.

فقم ليلة النصف الشريف مصليا ... فأشرف هذا الشهر ليلة نصفه

"فكم من فتى قد بات في النصف آمنا ... وقد نسخت فيه صحيفة حتفه

فبادر بفعل الخير قبل انقضائه ... وحاذر هجوم الموت فيه بصرفه

وصم يومها لله وأحسن رجاءه ... لتظفر عند الكرب منه بلطفه

ويتعين على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة وقبول الدعاء في تلك الليلة وقد روي: أنها: الشرك وقتل النفس والزنا وهذه الثلاثة أعظم الذنوب عند الله كما في حديث ابن مسعود المتفق على صحته أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم:

أي الذنب أعظم؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خسية أن يطعم معك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله تعالى ذلك: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}[الفرقان: ٦٨]الآية ومن الذنوب المانعة من المغفرة أيضا الشحناء وهي حقد المسلم على أخيه بغضا له لهوى نفسه وذلك يمنع أيضا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا" وقد فسر الأوزاعي هذه الشحناء المانعة بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرما من مشاحنة الأقران بعضهم بعضا وعن الأوزاعي أنه قال المشاحن كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة وكذا قال ابن ثوبان: المشاحن هو التارك لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الطاعن على أمته السافك دماءهم وهذا الشحناء أعني شحناء البدعة توجب الطعن على جماعة المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم كبدع الخوارج والروافض ونحوهم.

فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة وبغضهم والحقد عليهم واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين وإرادة الخير لهم ونصيحتهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه وقد وصف الله تعالى المؤمنين عموما بأنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر: ١٠].

وفي المسند عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "ثلاثة أيام يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فيطلع رجل واحد فاستضافه عبد الله بن عمرو فنام عنده ثلاثا لينظر عمله فلم ير له في بيته كبير عمل فأخبره بالحال فقال له هو ما ترى إلا أني أبيت وليس في قلبي شيء على أحد من المسلمين فقال عبد الله: "بهذا بلغ ما بلغ" وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان" قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ لا بكثرة الإجتهاد في الصوم والصلاة.

إخواني اجتنبوا الذنوب التي تحرم العبد مغفرة مولاه الغفار في مواسم الرحمة والتوبة والإستغفار.

أما الشرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[المائدة: ٧٢]وأما القتل فلو اجتمع أهل السموات وأهل الأرض على قتل رجل مسلم بغير حق لأكبهم الله جميعا في النار وأما الزنا فحذار حذار من التعرض لسخط الجبار الخلق كلهم عبيد الله وإماؤه والله يغار لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته فمن أجل ذلك حرم الفواحش وأمر بغض الأبصار وأما الشحناء فيا من أضمر لأخيه السوء وقصد له الإضرار: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[٤٢]. يكفيك حرمان المغفرة في أوقات مغفرة الأوزار.

خاب عبد بارز المو ... لى بأسباب المعاصي

ويحه مما جناه ... لم يخف يوم القصاص

يوم فيه ترعد الأقـ ... دام من شيب النواصي

لي ذنوب في ازدياد ... وحياة في انتقاص

فمتى أعمل ما أعـ ... ـلم لي فيه خلاصي

وقد روي عن عكرمة وغيره من المفسرين في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:٤]أنها ليلة النصف من شعبان والجمهور على أنها ليلة القدر وهو الصحيح وقال عطاء بن يسار: إذا كان ليلة النصف من شعبان دفع إلى ملك الموت صحيفة فيقال: اقبض من في هذه الصحيفة فإن العبد ليغرس الغراس وينكح الأزواج ويبني البنيان وأن اسمه قد نسخ في الموتى ما ينتظر به ملك الموت إلا أن يؤمر به فيقبضه يا مغرورا بطول الأمل يا مسرورا بسوء العمل كن من الموت على وجل فما تدري متى يهجم الأجل.

كل امرىء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله

قال بعض السلف: كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومن مؤمل غدا لا يدركه إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.

أؤمل أن أخلد والمنايا ... تدور علي من كل النواحي

وما أدري وإن أمسيت يوما ... لعلي لا أعيش إلى الصباح

"كم ممن راح في طلب الدنيا أو غدا أصبح من سكان القبور غدا".

كأنك بالمضي إلى سبيلك ... وقد جد المجهز في رحيلك

وجيء بغاسل فاستعجلوه ... بقولهم له أفرغ من غسيلك

ولم تحمل سوى كفن وقطن ... إليهم من كثيرك أو قليلك

وقد مد الرجال إليك نعشا ... فأنت عليه ممدود بطولك

"وصلوا ثم إنهم تداعوا ... لحملك من بكورك أو أصيلك

فلما أسلموك نزلت قبرا ... ومن لك بالسلامة في نزولك

أعانك يوم تدخله رحيم ... رؤوف بالعباد على دخولك

فسوف تجاور الموتى طويلا ... فذرني من قصيرك أو طويلك

أخي لقد نصحتك فاسمع لي ... وبالله استعنت على قبولك

ألست ترى المنايا كل حين ... تصيبك في أخيك وفي خليلك

 

* كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ط ابن حزم

 

 

وظائف شهر شعبان - المجلس الثالث في صيام آخر شعبان

ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ قال: لا قال: فإذا أفطرت فصم يومين" وفي رواية للبخاري أظنه يعني رمضان وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري: "هل صمت من سرر شعبان شيئا" وفي رواية: "فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه" وفي رواية: "يوما أو يومين" شك شعبة وروي: "من سرار الشهر".

وقد اختلف في تفسير السرار والمشهور إنه آخر الشهر يقال: سرار الشهر وسراره بكسر السين وفتحها ذكره ابن السكيت وغيره وقيل: إن الفتح أفصح قاله الفراء وسمي آخر الشهر سرارا: لاسترار القمر فيه وممن فسر السرار بآخر الشهر أبو عبيد وغيره من الأئمة وكذلك بوب عليه البخاري صيام آخر الشهر.

وأشكل هذا على كثير من العلماء في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين إلا من كان يصوم صوما فليصمه" فقال كثير من العلماء كأبي عبيد ومن تابعه كالخطابي وأكثر شراح الحديث: أن هذا الرجل الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن له عادة بصيامه أو كان قد نذره فلذلك أمره بقضائه وقالت طائفة: حديث عمران يدل على أنه يجوز صيام يوم الشك وآخر شعبان مطلقا سواء وافق عادة أو لم يوافق وإنما ينهى عنه إذا صامه بنية الرمضانية احتياطا وهذا مذهب مالك وذكر أنه القول الذي أدرك عليه أهل العلم حتى قال محمد بن مسلمة من أصحابه: يكره الأمر بفطره لئلا يعتقد وجوب الفطر قبل الشهر كما وجب بعده.

وحكى ابن عبد البر هذا القول عن أكثر علماء الأمصار وذكر محمد بن ناصر الحافظ: إن هذا هو مذهب أحمد أيضا وغلط في نقله هذا عن أحمد ولكن يشكل على هذا الحديث أبي هريرة رضي الله عنه وقوله: "إلا من كان يصوم صوما فليصمه" وقد ذكر الشافعي في كتاب مختلف الحديث احتمالا في معنى قوله: "إلا من كان يصوم صوما فليصمه" وفي رواية: "إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم" أن المراد بموافقة العادة صيامه على عادة الناس في التطوع بالصيام دون صيامه بنية الرمضانية للاحتياط.

وقالت طائفة: سر الشهر: أوله.

وخرج أبو داود في باب تقدم رمضان من حديث معاوية أنه قال: إني متقدم الشهر فمن شاء فليتقدم فسئل عن ذلك فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "صوموا الشهر وسره" ثم حكى أبو داود عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: أن سر الشهر: أوله قال أبو داود: وقال بعضهم: سره وسطه وفرق الأزهري بين سرار الشهر وسره فقال: سراره وسرره آخره وسره وسطه وهي أيام البيض وسر كل شيء جوفه.

وفي رواية لمسلم في حديث عمران بن حصين المذكور: "هل صمت من سرة هذا الشهر" وفسر ذلك: بأيام البيض قلت: لا يصح أن يفسر سرر الشهر وسراره بأوله لأن أول الشهر يشتهر فيه الهلال ويرى من أول الليل ولذلك سمى الشهر شهرا لاشتهاره وظهوره فتسمية ليالي الإشتهار ليالي السرار قلب للغة والعرف وقد أنكر العلماء ما حكاه أبو داود عن الأوزاعي منهم الخطابي وروى بإسناده عن الوليد عن الأوزاعي قال: سر الشهر: آخره وقال الهروي: المعروف أن سر الشهر آخره وفسر الخطابي حديث معاوية: "صوموا الشهر وسره" بأن المراد بالشهر الهلال فيكون المنى صوموا أول الشهر وآخره فلذلك أمر معاوية بصيام آخر الشهر.

قلت: لما روى معاوية: "صوموا الشهر وسره" وصام آخر الشهر علم أنه فسر السر بالآخر والأظهر أن المراد بالشهر شهر رمضان كله والمراد بسره آخر شعبان كما في رواية البخاري في حديث عمران أظنه يعني رمضان وأضاف السرر إلى رمضان وإن لم يكن منه كما سمى رمضان شهر عيد وإن كان العيد ليس منه لكنه يعقبه فدل حديث عمران وحديث معاوية على استحباب صيام آخر شعبان وإنما أمر بقضائه في أول شوال لأن كلا من الوقتين صيام يلي شهر رمضان فهو ملتحق برمضان في الفضل فمن فاته ما قبله صامه فيما بعده كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان وندب إلى صيام شوال.

وإنما يشكل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تقدم رمضان بيوم أو يومين إلا من له عادة أو من كان يصوم صوما وأكثر العلماء على أنه نهى عن التقدم إلا من كانت له عادة بالتطوع فيه وهو ظاهر الحديث ولم يذكر أكثر العلماء في تفسيره بذلك اختلافا وهو الذي اختاره الشافعي في تفسيره ولم يرجح ذلك الإحتمال المتقدم وعلى هذا فيرجح حديث أبي هريرة على حديث عمران فإن حديث أبي هريرة فيه نهي عام للأمة عموما فهو تشريع عام للأمة فيعمل به وأما حديث عمران فهي قضية عين في حق رجل معين فيتعين حمله على صورة صيام لا ينهى عن التقدم به جمعا بين الحدثين وأحسن ما حمل عليه: أن هذا الرجل الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم كان قد علم منه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم شعبان أو أكثره موافقة لصيام النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد أفطر فيه بعضه فسأله عن صيام آخره فلما أخبره أنه لم يصم آخره أمره بأن يصوم بدله بعد يوم الفطر لأن صيام أول شوال كصيام آخر شعبان وكلاهما حريم لرمضان وفيه دليل على استحباب قضاء ما فات من التطوع بالصيام وأن يكون في أيام مشابهة للأيام التي فات فيها الصيام في الفضل وفيه دليل على أنه يجوز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان من غير فصل بينهما.

فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يصوم بنية الرمضانية احتياطا لرمضان فهذا منهي عنه وقد فعله بعض الصحابة وكأنهم لم يبلغهم النهي عنه وفرق ابن عمر بين يوم الغيم والصحو في يوم الثلاثين من شعبان وتبعه الإمام أحمد.

والثاني: أن يصام بنية الندب أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة ونحو ذلك فجوزه الجمهور ونهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم مطلقا وهم طائفة من السلف وحكي كراهته أيضا عن أبي حنيفة والشافعي وفيه نظر.

والثالث: أن يصام بنية التطوع المطلق فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر منهم الحسن وإن وافق صوما كان يصومه ورخص فيه مالك ومن وافقه وفرق الشافعي والأوزاعى وأحمد وغيرهم بين أن يوافق عادة أو لا وكذلك يفرق بين صيامه بأكثر من يومين ووصله برمضان فلا يكره أيضا إلا عند من كره الإبتداء بالتطوع بالصيام بعد نصف شعبان فإنه ينهى عنه إلا أن يبتدىء الصيام قبل النصف ثم يصله برمضان.

وفي الجملة فحديث أبي هريرة هو المعمول به في هذا الباب عند كثير من العلماء وانه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة ولا سبق منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلا بآخره.

ولكراهة التقدم ثلاثة معان:

أحدها: أنه على وجه الإحتياط لرمضان فينهى عن التقدم قبله لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم وخرج الطبراني وغيره عن عائشة رضي الله عنه قالت: إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}[الحجرات: ١]قالت عائشة: إنما الصوم صوم الناس والفطر فطر الناس ومع هذا فكان من السلف من يتقدم للإحتياط والحديث حجة عليه.

ولهذا نهي عن صيام يوم الشك قال عمار: من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم ويوم الشك هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أو غيره فكان من المتقدمين من يصومه احتياطا ورخص فيه بعض الحنفية للعلماء في أنفسهم خاصة دون العامة لئلا يعتقدوا وجوبه بناء على أصلهم في أن صوم رمضان يجزىء بنية الصيام المطلق والنفل ويوم الشك هو الذي تحدث فيه برؤيته من لم يقبل قوله فأما يوم الغيم فمن العلماء من جعله يوم شك ونهى عن صيامه وهو قول الأكثرين ومنهم من صامه احتياطا وهو قول ابن عمر وكان الإمام أحمد يتابعه على ذلك وعنه في صيامه ثلاث روايات مشهورات ثالثها لا يصام إلا مع الإمام وجماعة المسلمين لئلا يقع الإفتيات عليهم والإنفراد عنهم وقال اسحاق: لا يصام يوم الغيم ولكم يتلوم بالأكل فيه إلى ضحوة النهار خشية أن يشهد برؤيته بخلاف حال الصحو فإنه يأكل فيه من غدوة.

والمعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنفل فإن جنس الفصل بين الفرائض والنوافل مشروع ولهذا حرم صيام يوم العيد ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام وخصوصا سنة الفجر قبلها فإنه يشرع الفصل بينها وبين الفريضة ولهذا يشرع صلاتها في البيت والإضطجاع بعدها.

ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي وقد أقيمت صلاة الفجر: "الصبح أربعا" وفي المسند: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "افصلوا بينها وبين المكتوبة ولا تجعلوها كصلاة الظهر" وفي سنن أبي داود: إن رجلا صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما سلم قام يشفع فوثب إليه عمر فأخذ بمنكبيه فهزه ثم قال: اجلس فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن لصلاتهم فصل فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره فقال: "أصاب الله بك يا ابن الخطاب" ومن علل بهذا فمنهم من كره وصل صوم شعبان برمضان مطلقا وروي عن ابن عمر قال: لو صمت الدهر كله لأفطرت الذي بينهما وروي فيه حديث مرفوع لا يصح والجمهور على جواز صيام ما وافق عادة لأن الزيادة إنما تخشى إذا لم يعرف سبب الصيام.

والمعنى الثالث: إنه أمر بذلك للتقوي على صيام رمضان فإن مواصلة الصيام قد تضعف عن صيام الفرض فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى التقوي على صيام رمضان وفي هذا التعليل نظر فإنه لا يكره التقدم بأكثر من ذلك ولا لمن صام الشهر كله وهو أبلغ في معنى الضعف لكن الفطر بنية التقوي لصيام رمضان حسن لمن أضعفه مواصلة الصيام كما كان عبد الله بن عمرو بن العاص يسرد الفطر أحيانا ثم يسرد الصوم ليتقوى بفطره على صومه ومنه قول بعض الصحابة إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي وفي الحديث المرفوع: "الطاعم الشاكر كالصائم الصابر" خرجه الترمذي وغيره ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام ولهذا يقولون هي أيام توديع للأكل وتسمى تنحيسا واشتقاقه من الأيام النحسات ومن قال: هو تنهيس بالهاء فهو خطأ منه ذكره ابن درستويه النحوي وذكر أن أصل ذلك متلقى من النصارى فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم وهذا كله خطأ وجهل ممن ظنه وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة بل يتعدى إلى المحرمات وهذا هو الخسران المبين وأنشد لبعضهم:

إذا العشرون من شعبان ولت ... فواصل شرب ليلك بالنهار

ولا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق على الصغار

وقال آخر.

جاء شعبان منذرا بالصيام ... فاسقياني راحا بماء الغمام

ومن كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه وله نصيب من قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}[لأعراف: ١٧٩]الآية وربما كره كثير منهم صيام رمضان حتى إن بعض السفهاء من الشعراء كان يسبه وكان للرشيد ابن سفيه فقال مرة:

دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر

فلو كان يعديني الأنام بقدرة ... على الشهر لاستعديت جهدي على الشهر

فأخذه داء الصرع فكان يصرع في كل يوم مرات متعددة ومات قبل أن يدركه رمضان آخر وهؤلاء السفهاء يستثقلون رمضان لاستثقالهم العبادات فيه من الصلاة والصيام فكثير من هؤلاء الجهال لا يصلي إلا في رمضان إذا صام وكثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان فيطول عليه ويشق على نفسه مفارقتها لمألوفها فهو يعد الأيام والليالي ليعودوا إلى المعصية وهؤلاء مصرون على ما فعلوا وهم يعلمون فهم هلكى ومنهم من لا يصبر على المعاصي فهو يواقعها في رمضان.

وحكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة وقد رويت من وجوه وهو أنه كان مصرا على شرب الخمر فجاء في آخر يوم من شعبان وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنورا فحملها فألقاها في التنور فاحترقت وكان بعد ذلك قد تاب وتعبد فرؤي له في النوم أن الله قد غفر للحاج كلهم سواه فمن أراد الله به خيرا حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فصار من الراشدين ومن أراد به شر خلى بينه وبين نفسه فاتبعه الشيطان فحبب إليه الكفر والفسوق والعصيان فكان من الغاوين.

الحذر الحذر من المعاصي فكم سلبت من نعم وكم جلبت من نقم وكم خربت من ديار وكم أخلت ديارا من أهلها فما بقي منهم ديار كم أخذت من العصاة بالثار كم محت لهم من آثار.

يا صاحب الذنب لا تأمن عواقبه ... عواقب الذنب تخشى وهي تنتظر

فكل نفس ستجزى بالذي كسبت ... وليس للخلق من ديانهم وزر

أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان ليلهم قيام ونهارهم صيام.

باع قوم من السلف جارية فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها فسألتهم فقالوا نتهيأ لصيام رمضان فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان ردوني عليهم.

باع الحسن بن صالح جارية له فلما انتصف الليل قامت فنادتهم: يا أهل الدار الصلاة الصلاة قالوا: طلع الفجر؟ قالت: أنتم لا تصلون إلا المكتوبة ثم جاءت الحسن فقالت: بعتني على قوم سوء لا يصلون إلا المكتوبة ردني ردني قال بعض السلف: صم الدنيا واجعل فطرك الموت الدنيا كلها شهر صيام المتقين يصومون فيه عن الشهوات المحرمات فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم واستهلوا عيد فطرهم.

وقد صمت عن لذات دهري كلها ... ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته ومن تعجل ما حرم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته وشاهد ذلك قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا}[الاحقاف: ٢٠]الآية وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة".

أنت في دار شتات ... فتأهب لشتاتك

واجعل الدنيا كيوم ... صمته عن شهواتك

وليكن فطرك عند الله ... في يوم وفاتك

في حديث مرفوع خرجه ابن أبي الدنيا: "لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان كما خرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه يقول: "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه فيه تفتح أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم" قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشياطين من أين يشبه هذا الزمان زمان.

وفي حديث آخر: "أتاكم رمضان سيد الشهور فمرحبا به وأهلا".

جاء شهر الصيام بالبركات ... فأكرم به من زائر هو آت

وروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ببلوغ رمضان فكان إذا دخل رجب يقول: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان" خرجه الطبراني وغيره من حديث أنس قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلغهم رمضان يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم وقال يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا.

بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم ثم مات الثالث على فراشه بعدهما فرؤي في المنام سابقا لهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاة وأدرك رمضان فصامه؟! فوالذي نفسي بيده إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض" خرجه الإمام أحمد وغيره من رحم في رمضان فهو المرحوم ومن حرم خيره فهو المحروم ومن لم يتزود لمعاده فيه فهو ملوم.

أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد

فأد حقوقه قولا وفعلا ... وزادك فاتخذه للمعاد

فمن زرع الحبوب وما سقاها ... تأوه نادما يوم الحصاد

يا من طالت غيبته عنا قد قربت أيام المصالحة يا من دامت خسارته قد أقبلت أيام التجارة الرابحة من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يربح.

أناس أعرضوا عنا ... بلا جرم ولا معنى

أساؤا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا

فإن عادوا لنا عدنا ... وإن خانوا فما خنا

فإن كانوا قد استغنوا ... فإنا عنهم أغنا

كم ينادي حي على الفلاح وأنت خاسر كم تدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابر.

إذا رمضان أتى مقبلا ... فاقبل فبالخير يستقبل

لعلك تخطئه قابلا ... وتأتي بعذر فلا يقبل

كم ممن أمل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله صار قبله إلى ظلمة القبر كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومؤمل غدا لا يدركه إنكم لو أبصرتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.

خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها: إنكم لم تخلقوا عبثا ولن تتركوا سدى وإن لكم معادا ينزل الله فيه للفصل بين عباده فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم جنة عرضها السموات والأرض ألا ترون إنكم في أسلاب الهالكين وسيرتها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين وفي كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله فتودعونه وتدعونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وسكن التراب وواجه الحساب غنيا عما خلف فقيرا إلى ما أسلف فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي ولكن أستغفر الله وأتوب إليه ثم رفع طرف ردائه وبكى حتى شهق ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه.

يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب ... حتى عصى ربه في شهر شعبان

لقد أظلك شهر الصوم بعدهما ... فلا تصيره أيضا شهر عصيان

واتل القرآن وسبح فيه مجتهدا ... فإنه شهر تسبيح وقرآن

فاحمل على جسد ترجو النجاة له ... فسوف تضرم أجساد بنيران

كم كنت تعرف ممن صام في سلف ... من بين أهل وجيران وإخوان

أفناهم الموت واستبقاك بعدهم ... حيا فما أقرب القاصي من الداني

ومعجب بثياب العيد يقطعها ... فأصبحت في غد أثواب أكفان

حتى يعمر الإنسان مسكنه ... مصير مسكنه قبر لإنسان

 

* كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ط ابن حزم

 

 

وظائف شهر شعبان - المجلس الثاني في نصف شعبان

خرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان" وصححه الترمذي وغيره واختلف العلماء في صحة هذا الحديث ثم في العمل به: فأما تصحيحه فصححه غير واحد منهم الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم وقالوا: هو حديث منكر منهم الرحمن بن المهدي والإمام أحمد وأبو زرعة الرازي والأثرم وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء حديثا أنكر منه ورده بحديث: "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين" فإن مفهومه جواز التقدم بأكثر من يومين وقال الأثرم الأحاديث كلها تخالفه يشير كلها تخالفه يشير إلى أحاديث صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله ووصله برمضان ونهيه عن التقدم على رمضان بيومين فصار الحديث حينئذ شاذا مخالفا للأحاديث الصحيحة وقال الطحاوي هو منسوخ وحكى الإجماع على ترك العمل به وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به وقد أخذ آخرون منهم الشافعي وأصحابه ونهو عن ابتداء التطوع بالصيام بعد نصف شعبان لمن ليس له عادة ووافقهم بعض المتأخرين من أصحابنا ثم اختلفوا في علة النهي فمنهم من قال: خشية أن يزاد في شهر رمضان ما ليس منه وهذا بعيد جدا فيما بعد النصف وإنما يحتمل هذا في التقديم بيوم أو يومين ومنهم من قال: النهي للتقوى على صيام رمضان شفقة أن يضعفه ذلك عن صيام رمضان وروي ذلك عن وكيع ويرد هذا صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان كله أو أكثره ووصله برمضان هذا كله بالصيام بعد نصف شعبان.

وأما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر وقد ورد الأمر بصيامه من شعبان بخصوصه ففي سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا كان ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلي فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر" وفي فضل ليلة نصف شعبان أحاديث أخر متعددة وقد اختلف فيها فضعفها الأكثرون وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه ومن أمثلها حديث عائشة قال: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال: "أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله" فقلت يا رسول الله ظننت أنك أتيت بعض نسائك فقال: " إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب" خرجه الإمام أحمد والترمذي الإمام أحمد ابن ماجه وذكر الترمذي عن البخاري أنه ضعفه.

وخرج ابن ماجه من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليطلع ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" وخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن أو قاتل نفس" وخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث معاذ مرفوعا ويروى من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعا: "إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى مناد: هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه فلا يسأل أحد شيئا إلا أعطيه إلا زانية بفرجها أو مشركا" وفي الباب أحاديث أخر فيها ضعف ويروى عن نوف البكالي أن عليا خرج ليلة النصف من شعبان فأكثر الخروج فيها ينظر إلى السماء فقال: إن داود عليه السلام خرج ذات ليلة في مثل هذه الساعة فنظر إلى السماء فقال إن هذه الساعة ما دعى الله أحد إلا أجابه ولا استغفره أحد من هذه الليلة إلا غفر له ما لم يكن عشارا أو ساحرا أو شاعرا أو كاهنا أو عريفا أو شرطيا أو جابيا أو صاحب كوبة أو غرطبة قال نوف: الكوبة الطبل والغرطبة: الطنبور اللهم رب داود اغفر لمن دعاك في هذه الليلة ولمن استغفرك فيها.

وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها وقد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم وافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقالوا: ذلك كله بدعة.

واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:

أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك ووافقهم إسحاق بن راهوية على ذلك وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ببدعة نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.

والثاني: أنه يكره الإجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى.

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامله إلى البصرة عليك بأربع ليال من السنة فإن الله يفرغ فيهن الرحمة إفراغا أول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان وليلة الفطر وليلة الأضحى وفي صحته عنه نظر.

وقال الشافعي رضي الله عنه: بلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة والعيدين وأول رجب ونصف شعبان قال: وأستحب كل ما حكيت في هذه الليالي ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستحبها في رواية لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود وهو من التابعين فكذلك قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام.

وروي عن كعب قال: إن الله تعالى يبعث ليلة النصف من شعبان جبريل عليه السلام إلى الجنة فيأمرها أن تتزين ويقول: إن الله تعالى قد اعتق في ليلتك هذه عدد نجوم السماء وعدد أيام الدنيا ولياليها وعدد ورق الشجر وزنة الجبال وعدد الرمال وروى سعيد بن منصور حدثنا أبو معشر عن أبي حازم ومحمد بن قيس عن عطاء بن يسار قال: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من ليلة النصف من شعبان ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيغفر لعباده كلهم إلا لمشرك أو مشاحن او قاطع رحم فيا من أعتق فيها من النار هنيئا لك المنحة الجسيمة ويا أيها المردود فيها جبر الله مصيبتك هذه فإنها مصيبة عظيمة.

بكيت على نفسي وحق لي البكا ... وما انا من تضييع في شك

لئن قلت أني في صنيعي محسن ... فإني في قولي لذلك ذو إفك

ليالي شعبان وليلة نصفه ... بأية حال قد تنزل لي صكي

وحق لعمري أن أديم تضرعي ... لعل إله الخلق يسمح بالفك

فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة لذكر الله تعالى ودعائه بغفران الذنوب وستر العيوب وتفريج الكروب وأن يقدم على ذلك التوبة فإن الله تعالى يتوب فيها على من يتوب.

فقم ليلة النصف الشريف مصليا ... فأشرف هذا الشهر ليلة نصفه

"فكم من فتى قد بات في النصف آمنا ... وقد نسخت فيه صحيفة حتفه

فبادر بفعل الخير قبل انقضائه ... وحاذر هجوم الموت فيه بصرفه

وصم يومها لله وأحسن رجاءه ... لتظفر عند الكرب منه بلطفه

ويتعين على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة وقبول الدعاء في تلك الليلة وقد روي: أنها: الشرك وقتل النفس والزنا وهذه الثلاثة أعظم الذنوب عند الله كما في حديث ابن مسعود المتفق على صحته أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم:

أي الذنب أعظم؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خسية أن يطعم معك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله تعالى ذلك: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ}[الفرقان: ٦٨]الآية ومن الذنوب المانعة من المغفرة أيضا الشحناء وهي حقد المسلم على أخيه بغضا له لهوى نفسه وذلك يمنع أيضا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا" وقد فسر الأوزاعي هذه الشحناء المانعة بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرما من مشاحنة الأقران بعضهم بعضا وعن الأوزاعي أنه قال المشاحن كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة وكذا قال ابن ثوبان: المشاحن هو التارك لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الطاعن على أمته السافك دماءهم وهذا الشحناء أعني شحناء البدعة توجب الطعن على جماعة المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم كبدع الخوارج والروافض ونحوهم.

فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة وبغضهم والحقد عليهم واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين وإرادة الخير لهم ونصيحتهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه وقد وصف الله تعالى المؤمنين عموما بأنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[الحشر: ١٠].

وفي المسند عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "ثلاثة أيام يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فيطلع رجل واحد فاستضافه عبد الله بن عمرو فنام عنده ثلاثا لينظر عمله فلم ير له في بيته كبير عمل فأخبره بالحال فقال له هو ما ترى إلا أني أبيت وليس في قلبي شيء على أحد من المسلمين فقال عبد الله: "بهذا بلغ ما بلغ" وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان" قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ لا بكثرة الإجتهاد في الصوم والصلاة.

إخواني اجتنبوا الذنوب التي تحرم العبد مغفرة مولاه الغفار في مواسم الرحمة والتوبة والإستغفار.

أما الشرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}[المائدة: ٧٢]وأما القتل فلو اجتمع أهل السموات وأهل الأرض على قتل رجل مسلم بغير حق لأكبهم الله جميعا في النار وأما الزنا فحذار حذار من التعرض لسخط الجبار الخلق كلهم عبيد الله وإماؤه والله يغار لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته فمن أجل ذلك حرم الفواحش وأمر بغض الأبصار وأما الشحناء فيا من أضمر لأخيه السوء وقصد له الإضرار: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[٤٢]. يكفيك حرمان المغفرة في أوقات مغفرة الأوزار.

خاب عبد بارز المو ... لى بأسباب المعاصي

ويحه مما جناه ... لم يخف يوم القصاص

يوم فيه ترعد الأقـ ... دام من شيب النواصي

لي ذنوب في ازدياد ... وحياة في انتقاص

فمتى أعمل ما أعـ ... ـلم لي فيه خلاصي

وقد روي عن عكرمة وغيره من المفسرين في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[الدخان:٤]أنها ليلة النصف من شعبان والجمهور على أنها ليلة القدر وهو الصحيح وقال عطاء بن يسار: إذا كان ليلة النصف من شعبان دفع إلى ملك الموت صحيفة فيقال: اقبض من في هذه الصحيفة فإن العبد ليغرس الغراس وينكح الأزواج ويبني البنيان وأن اسمه قد نسخ في الموتى ما ينتظر به ملك الموت إلا أن يؤمر به فيقبضه يا مغرورا بطول الأمل يا مسرورا بسوء العمل كن من الموت على وجل فما تدري متى يهجم الأجل.

كل امرىء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله

قال بعض السلف: كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومن مؤمل غدا لا يدركه إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.

أؤمل أن أخلد والمنايا ... تدور علي من كل النواحي

وما أدري وإن أمسيت يوما ... لعلي لا أعيش إلى الصباح

"كم ممن راح في طلب الدنيا أو غدا أصبح من سكان القبور غدا".

كأنك بالمضي إلى سبيلك ... وقد جد المجهز في رحيلك

وجيء بغاسل فاستعجلوه ... بقولهم له أفرغ من غسيلك

ولم تحمل سوى كفن وقطن ... إليهم من كثيرك أو قليلك

وقد مد الرجال إليك نعشا ... فأنت عليه ممدود بطولك

"وصلوا ثم إنهم تداعوا ... لحملك من بكورك أو أصيلك

فلما أسلموك نزلت قبرا ... ومن لك بالسلامة في نزولك

أعانك يوم تدخله رحيم ... رؤوف بالعباد على دخولك

فسوف تجاور الموتى طويلا ... فذرني من قصيرك أو طويلك

أخي لقد نصحتك فاسمع لي ... وبالله استعنت على قبولك

ألست ترى المنايا كل حين ... تصيبك في أخيك وفي خليلك

 

* كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ط ابن حزم

 

 

وظائف شهر شعبان - المجلس الأول في صيامه

خرج الإمام أحمد والنسائي من حديث أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الأيام يسرد حتى نقول لا يفطر ويفطر الأيام حتى لا يكاد يصوم إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه وإلا صامهما ولم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان فقلت يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما؟ قال: أي يومين قلت: يوم الإثنين ويوم الخميس قال: " ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم قلت: ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين عز وجل فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".

قد تضمن هذا الحديث ذكر صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع السنة وصيامه من أيام الأسبوع وصيامه من شهور السنة فأما صيامه من السنة فكان يسرد الصوم أحيانا والفطر أحيانا فيصوم حتى يقال: لا يفطر ويفطر حتى يقال: لا يصوم.

وقد روي ذلك أيضا عن عائشة وابن عباس وأنس وغيرهم ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وفيهما عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم إذا صام حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر ويفطر إذا فطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم وفيهما عن أنس أنه سئل عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كنت أحب أن أراه من الشهر صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته ولا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته ولمسلم عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال: قد صام قد صام ويفطر حتى يقال: قد أفطر قد أفطر.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر على من يسرد صوم الدهر ولا يفطر منه ويخبر عن نفسه: أنه لا يفعل ذلك ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أتصوم النهار وتقوم الليل"؟ قال: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وفيهما عن أنس: أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج النساء وقال بعضهم: لا آكل اللحم وقال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب وقال: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وخرجه النسائي وزاد فيه: وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر.

وفي مسند الإمام أحمد عن رجل من الصحابة قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مولاة لبني عبد المطلب فقيل: إنها قامت الليل وتصوم النهار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكني أنا أنام وأصلي وأصوم وأفطر فمن اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني إن لكل عمل شدة وفترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى".

وفي المسند وسنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها أن عثمان بن مظعون أراد التبتل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترغب عن سنتي"؟ قال: لا والله ولكن سنتك أريد قال: "فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله يا عثمان فإن لأهلك عليك حقا وإن لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم وافطر وصل ونم" وقد قال عكرمة وغيره: إن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب والمقداد وسالما مولى أبي حذيفة في جماعة تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالإختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}[المائدة:٨٧].

وفي صحيح البخاري أن سلمان زار أبا الدرداء وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما فرأى أم الدرداء متبذلة فقال: ما شأنك متبذلة؟ فقالت: إن أخاك أبا الدرداء لا حاجة له في الدنيا فلما جاء أبو الدرداء قرب له طعاما قال له: كل فقال إني صائم فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان: نم ثم ذهب ليقوم فقال له: نم فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن فقاما فصليا فقال سلمان: إن لنفسك عليك حقا وإن لضيفك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: "صدق سلمان" وفي رواية في غير الصحيح قال: "ثكلت سلمان أمه لقد أشبع من العلم" وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص لما كان يصوم الدهر فنهاه وأمره أن يصوم صوم داود يصوم يوما ويفطر يوما وقال له: "لا أفضل من ذلك".

وقد ورد النهي عن صيام الدهر والتشديد فيه وهذا كله يدل على أن أفضل الصيام أن لا يستدام بل يعاقب بينه وبين الفطر وهذا هو الصحيح من قولي العلماء وهو مذهب أحمد وغيره وقيل لعمر: إن فلانا يصوم الدهر فجعل يقرع رأسه بقناة معه ويقول: كل يا دهر كل يا دهر خرجه عبد الرزاق.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحكمة في ذلك من وجوه: منها: قوله صلى الله عليه وسلم في صيام الدهر: "لا صام ولا أفطر" يعني أنه لا يجد مشقة الصيام ولا فقد الطعام والشراب والشهوة لأنه صار الصيام له عادة مألوفة فربما تضرر بتركه فإذا صام تارة وأفطر أخرى حصل له بالصيام مقصوده بترك هذه الشهوات وفي نفسه داعية إليها وذلك أفضل من أن يتركها ونفسه لا تتوق إليها ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في حق داود عليه السلام: "كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى" يشير إلى أنه كان لا يضعفه صيامه عن ملاقاة عدوه ومجاهدته في سبيل الله ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم الفتح وكان في رمضان: "إن هذا يوم قتال فافطروا" وكان عمر إذا بعث سرية قال لهم: لا تصوموا فإن التقوى على الجهاد أفضل من الصوم.

فأفضل الصيام أن لا يضعف البدن حتى يعجز عما هو أفضل منه من القيام بحقوق الله تعالى أو حقوق عباده اللازمة فإن أضعف عن شيء من ذلك مما هو أفضل منه كان تركه أفضل فالأول: مثل أن يضعف الصيام عن الصلاة أو عن الذكر أو عن العلم كما قيل في النهي عن صيام الجمعة ويوم عرفة بعرفة أنه يضعف عن الذكر والدعاء في هذين اليومين وكان ابن مسعود يقل الصوم ويقول: إنه يمنعني من قراءة القرآن وقراءة القرآن أحب إلي فقراءة القرآن أفضل من الصيام نص عليه سفيان الثوري وغيره من الأئمة وكذلك تعلم العلم النافع وتعليمه أفضل من الصيام وقد نص الأئمة الأربعة على أن طلب العلم أفضل من صلاة النافلة والصلاة أفضل من الصيام المتطوع به فيكون العلم أفضل من الصيام بطريق الأولى فإن العلم مصباح يستضاء به في ظلمة الجهل والهوى فمن سار في طريق على غير مصباح لم يأمن أن يقع في بئر بوار فيعطب قال ابن سيرين: إن قوما تركوا العلم واتخذوا محاريب فصلوا وصاموا بغير علم والله ما عمل أحد بغير علم إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح والثاني: مثل أن يضعف الصيام عن الكسب للعيال أو القيام بحقوق الزوجات فيكون تركه أفضل وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن لأهلك عليك حقا".

ومنها: ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن لنفسك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه" يشير إلى أن النفس وديعة لله عند ابن آدم وهو مأمور أن يقوم بحقها ومن حقها اللطف بها حتى توصل صاحبها إلى المنزل قال الحسن: نفوسكم مطاياكم إلى ربكم فأصلحوا مطاياكم توصلكم إلى ربكم فمن وفى نفسه حظها من المباح بنية التقوى به على تقويتها على أعمال الطاعات كان مأجورا في ذلك كما قال معاذ بن جبل: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ومن قصر في حقها حتى ضعفت وتضررت كان ظالما وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص: "إنك إذا فعلت ذلك نفهت له النفس وهجمت له العين" ومعنى نفهت: كلت وأعيت ومعنى هجمت العين: غارت وقال لأعرابي جاءه فأسلم ثم أتاه من عام قابل وقد تغير فلم يعرفه فلما عرفه سأله عن حاله؟ قال: ما أكلت بعدك طعاما بنهار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن أمرك أن تعذب نفسك؟! " فمن عذب نفسه بأن حملها ما لا تطيقه من الصيام ونحوه فربما أثر ذلك في ضعف بدنه وعقله فيفوته من الطاعات الفاضلة أكثر مما حصله بتعذيبه نفسه بالصيام.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم: يتوسط في إعطاء نفسه حقها ويعدل فيها غاية العدل فيصوم ويفطر ويقوم وينام وينكح النساء ويأكل ما يجد من الطيبات كالحلواء والعسل ولحم الدجاج وتارة يجوع يربط على بطنه الحجر وقال: " عرض علي ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت: لا يا رب ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا شبعت حمدتك وشكرتك" فاختار لنفسه أفضل الأحوال ليجمع بين مقامي الشكر والصبر والرضا.

ومنها ما أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: "ولعله أن يطول بك حياة" يعني: أن من تكلف الإجتهاد في العبادة فقد تحمله قوة الشباب ما دامت باقية فإذا ذهب الشباب وجاء المشيب والكبر عجز عن حمل ذلك فإن صابره وجاهد واستمر فربما هلك بدنه وإن قطع فقد فاته أحب الأعمال إلى الله تعالى وهو المداومة على العمل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكلفوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا" وقال صلى الله عليه وسلم: " أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل" فمن عمل عملا يقوى عليه بدنه في طول عمره في قوته وضعفه استقام سيره ومن حمل ما لا يطيق فإنه قد يحدث له مرض يمنعه من العمل بالكلية وقد يسأم ويضجر فيقطع العمل فيصير كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

وأما صيام النبي صلى الله عليه وسلم من الأيام أعني أيام الأسبوع فكان يتحرى صيام الاثنين والخميس وكذا روي عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الإثنين والخميس خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه وخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين والخميس فقيل له: يا رسول الله إنك تصوم الإثنين والخميس؟ فقال: "إن يوم الإثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم إلا مهتجرين فيقول: دعوهما حتى يصطلحا" وخرجه الإمام أحمد وعنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم الإثنين والخميس فقيل له؟: قال: "إن الأعمال تعرض كل اثنين وخميس فيغفر لكل مسلم أو لكل مؤمن إلا المتهاجرين فيقول: أخرهما" وخرجه الترمذي ولفظه قال: "تعرض الأعمال يوم الإثنين ويوم الخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" وروي موقوفا على أبي هريرة ورجح بعضهم وقفه.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء يقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا" ويروى بإسناد فيه ضعف عن أبي أمامة مرفوعا "ترفع الأعمال يوم الإثنين ويوم الخميس فيغفر للمستغفرين ويترك أهل الحقد بحقدهم" وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[قّ:١٨]قال: يكتب كل ما تكلم به من خير وشر حتى أنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:٣٩]خرجه ابن أبي حاتم وغيره.

فهذا يدل على اختصاص يوم الخميس بعرض الأعمال لا يوجد في غيره.

وكان إبراهيم النخعي يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه ويقول: اليوم تعرض أعمالنا على الله عز وجل فهذا عرض خاص في هذين اليومين غير العرض العام كل يوم فإن ذلك عرض دائم بكرة وعشيا ويدل على ذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر فيسأل الذين باتوا فيكم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون".

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع الله عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" ويروى عن ابن مسعود قال: إن مقدار كل يوم من أيامكم عند ربكم اثنتا عشرة ساعة فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار اليوم فينظر فيها ثلاث ساعات وذكر باقيه كان الضحاك يبكي آخر النهار ويقول: لا أدري ما رفع من عملي يا من عمله معروض على من يعلم السر وأخفى لا تبهرج فإن الناقد بصير.

السقم على الجسم له ترداد ... والعمر ينقص والذنوب تزاد

ما أبعد شقتي ومالي زاد ... ما أكثر بهرجي ولي نقاد

وحديث أسامة فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سرد الفطر يصوم الإثنين والخميس فدل على مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على صيامهما وقد كان أسامة يصومهما حضرا وسفرا لهذا وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فقال له: إني أقوى على أكثر من ذلك قال: "فصم من الجمعة يوم الإثنين والخميس" قال: إني أقوى على أكثر من ذلك قال: "فصم صيام داود".

وفي مسند الإمام أحمد من رواية عثمان بن رشيد حدثني أنس بن سيرين قال: أتينا أنس بن مالك في يوم خميس فدعا بمائدة فدعاهم إلى الغداء فتغذى بعض القوم وأمسك بعض ثم أتوه يوم الخميس ففعل مثلها فقال أنس: لعلكم أثنائيون لعلكم خميسيون كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال: لا يفطر ويفطر حتى يقال: لا يصوم وظاهر هذا الحديث يخالف حديث أسامة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصوم الإثنين والخميس إذا دخلا في صيامه ولم يكن يتحرى صيامهما في أيام سرد فطره ولكن عثمان بن رشيد ضعيف ضعفه ابن معين وغيره وحديث أسامة أصح منه وقد روي من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام أول خميس والإثنين والإثنين وفي رواية بالعكس الإثنين والخميس والخميس وأكثر العلماء على استحباب صيام الإثنين والخميس وروي كراهته عن أنس بن مالك من غير وجه عنه وكان مجاهد يفعله ثم يتركه وكرهه وكره أبو جعفر محمد بن علي صيام الإثنين وكرهت طائفة صيام يوم معين كلما مر بالإنسان.

روي عن عمران بن حصن وابن عباس والشعبي والنخعي ونقله ابن القاسم عن مالك وقال الشافعي في القديم أكره ذلك قال: وإنما كرهته لئلا يتأسى جاهل فيظن أن ذلك واجب قال: فإن فعل فحسن يعني على غير اعتقاد الوجوب.

وإنما صيام النبي صلى الله عليه وسلم من أشهر السنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان زاد البخاري في رواية: كان يصوم شعبان كله ولمسلم في رواية: كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلا وفي رواية النسائي عن عائشة قالت: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصوم شعبان كان يصله برمضان وعنها وعن أم سلمة قالتا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان إلا قليلا بل كان يصومه كله وعن أم سلمة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان.

وقد رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شعبان وإنما كان يصوم أكثره ويشهد له ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما علمته تعني النبي صلى الله عليه وسلم صام شهرا كله إلا رمضان وفي رواية له أيضا عنها قالت: ما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان وفي رواية له أيضا: أنها قالت: لا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ولا صام شهرا كاملا غير رمضان وفي رواية له أيضا قالت: ما رأيته قام ليلة حتى الصباح ولا صام شهرا متتابعا إلا رمضان وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا غير رمضان وكان ابن عباس يكره أن يصوم شهرا كاملا غير رمضان وروى عبد الرزاق في كتابه عن ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن عباس بنهى عن صيام الشهر كاملا ويقول: ليصمه إلا أياما وكان ينهي عن إفراد اليوم كلما مر به وعن صيام الأيام المعلومة وكان يقول: لا تصم أياما معلومة.

فإن قيل: فكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص شعبان بصيام التطوع فيه مع أنه قال: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم"؟ فالجواب: أن جماعة من الناس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية لاعتقادهم أن صيام المحرم والأشهر الحرم أفضل من شعبان كما صرح به الشافعية وغيرهم والأظهر خلاف ذلك وأن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم ويدل على ذلك ما خرجه الترمذي من حديث أنس سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: "شعبان" تعظيما لرمضان وفي إسناده مقال وفي سنن ابن ماجة: أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صم شوالا" فترك الأشهر الحرم فكان يصوم شوالا حتى مات وفي إسناده إرسال وقد روي من وجه آخر يعضده فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم وإنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده كما أن شعبان يليه من قبله وشعبان أفضل لصيام النبي صلى الله عليه وسلم له دون شوال فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى.

فظهر بهذا أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان قبله وبعده وذلك يلتحق بصيام رمضان لقربه منه وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها فيلتحق بالفرائض في الفضل وهي تكملة لنقص الفرائض وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه.

ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان المحرم": محمولا على التطوع المطلق بالصيام فأما ما قبل رمضان وبعده فإن يلتحق في الفضل كما أن قوله في تمام الحديث "وأفضل الصلاة بعد المكتوبة: قيام الليل" إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية والله أعلم.

فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما" ولم يصم كذلك بل كان يصوم سردا ويفطر سردا ويصوم شعبان وكل اثنين وخميس؟ قيل: صيام داود الذي فضله النبي صلى الله عليه وسلم على الصيام قد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بأنه صوم شطر الدهر وكان صيام النبي صلى الله عليه وسلم إذا جمع يبلغ نصف الدهر أو يزيد عليه وقد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء أو تسع ذي الحجة وإنما كان يفرق صيامه ولا يصوم يوما ويفطر يوما لأنه كان يتحرى صيام الأوقات الفاضلة ولا يضر تفريق الصيام والفطر أكثر من يوم ويوم إذا كان القصد به التقوى على ما هو أفضل من الصيام من أداء الرسالة وتبليغها والجهاد عليها والقيام بحقوقها فكان صيام يوم وفطر يوم يضعفه عن ذلك ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة عمن يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: "وددت أني طوقت ذلك" وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص لما كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوى به على الصيام ثم يعود فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم من صيام شطر الدهر فحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أجر صيام شطر الدهر وأزيد منه بصيامه المتفرق وحصل له أجر تتابع الصيام بتمنيه لذلك وإنما عاقه عنه الإشتغال بما هو أهم منه وأفضل والله أعلم.

وقد ظهر بما ذكرناه وجه صيام النبي صلى الله عليه وسلم لشعبان دون غيره من الشهور وفيه معان أخر: وقد ذكر منها النبي في حديث أسامة معنيين:

أحدهما: أنه شهر "يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان" يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولا عنه وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه لأنه شهر حرام وليس كذلك وروى ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت: ذكر لرسول الله ناس يصومون رجبا؟ فقال: "فأين هم عن شعبان".

وفي قوله: "يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان" إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة وأن ذلك محبوب لله عز وجل كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة ويقولون: هي ساعة غفلة ولذلك فضل القيام في وسط الليل المشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الليلة فكن" ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يؤخر العشاء إلى نصف الليل وإنما علل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس ولما خرج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: "ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم" وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع والآثار الموقوفة حتى قال أبو صالح: إن الله ليضحك ممن يذكره في السوق وسبب ذلك أنه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة وفي حديث أبي ذر المرفوع: "ثلاثة يحبهم الله قوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي وقوم كانوا في سرية فانهزموا فتقدم أحدهم فلقي العدو فصبر حتى قتل وذكر أيضا قوما جاءهم سائل فسألهم فلم يعطوه فانفرد أحدهم حتى أعطاه سرا" فهؤلاء الثلاثة انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سرا بينهم وبينه فأحبهم الله فكذلك من يذكر الله في غفلة الناس أو من يصوم في أيام غفلة الناس عن الصيام.

وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد: منها: أنه يكون أخفى وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء وقد صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان فيتصدق بهما ويصوم فيظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته وكانوا يستحبون لمن صام أن يظهر ما يخفي به صيامه فعن ابن مسعود: أنه قال: إذا أصبحتم صياما فأصبحوا مدهنين وقال قتادة: يستحب للصائم أن يدهن حتى تذهب عنه غبرة الصيام وقال أبو التياح: أدركت أبي ومشيخة الحي إذا صام أحدهم ادهن ولبس صالح ثيابه ويروى أن عيسى بن مريم عليه السلام قال: "إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته وليمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر الناظر إليه فيرى أنه ليس بصائم".

اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يجتهد في إظهار فطره للناس حتى كان يقوم يوم الجمعة والناس مجتمعون في مسجد الجامع فيأخذ إبريقا فيضع بلبلته في فيه ويمصه ولا يزدرد منه شيئا ويبقى ساعة كذلك ينظر الناس إليه فيظنون أنه يشرب الماء وما دخل إلى حلقه منه شيء كم ستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق ينم علهيم ريح الصيام أطيب من ريح المسك تستنشقه قلوب المؤمنين وإن خفي وكلما طالت عليه المدة ازدادت قوة ريحه.

كم أكتم حبكم عن الأغيار ... والدمع يذيع في الهوى أسراري

كم أستركم هتكتموا أسراري ... من يخفي في الهوى لهيب النار

ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه رداءها علانية.

وهبني كتمت السرا وقلت غيره ... أتخفي على أهل القلوب السرائر

أبى ذاك أن السر في الوجه ناطق ... وإن بضمير القلب في العين ظاهر

ومنها: أنه أشق على النفوس: وأفضل الأعمال أشقها على النفوس وسبب ذلك أن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال أبناء الجنس فإذا كثرت يقظة الناس وطاعاتهم كثر أهل الطاعة لكثرة المقتدين بهم فسهلت الطاعات وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدون بهم فيها ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم "للعامل منهم أجر خمسين منكم إنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون" وقال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" وفي رواية قيل: ومن الغرباء: قال: "الذين يصلحون إذا فسد الناس".

وفي صحيح مسلم من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العباد في الهرج كالهجرة إلي" وخرجه الإمام أحمد ولفظه: "العباد في الفتنة كالهجرة إلي" وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مساخطه كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به متبعا لأوامره مجتنبا لنواهيه.

ومنها أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يدفع البلاء عن الناس كلهم فكأنه يحميهم ويدافع عنهم وفي حديث ابن عمر الذي رويناه في جزء ابن عرفة مرفوعا: "ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارين وذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي تحات ورقه من الصرير ـ والصرير: البرد الشديد ـ وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل رطب ويابس وذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده في الجنة" قال بعض السلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة ولولا من يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس.

رأى جماعة من المتقدمين في منامهم كأن ملائكة نزلت إلى بلاد شتى فقال بعضهم لبعض: اخسفوا بهذه القرية فقال بعضهم: كيف نخسف بها وفلان قائم يصلي ورأى بعض المتقدمين في منامه من ينشد ويقول:

لولا الذين لهم ورد يصلونا ... وآخرون لهم سرد يصومونا

لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا ... لأنكم قوم سوء ما تطيعونا

وفي مسند البزار عن أبي هريرة مرفوعا: "مهلا عن الله مهلا فلولا عباد ركع وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا" ولبعضهم في المعنى:

لولا عباد للإله ركع ... وصبية من اليتامى رضع

ومهملات في الفلاة رتع ... صب عليكم العذاب الموجع

وقد قيل في تأويل قوله تعالى{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ}[البقرة: ٢٥١]أنه يدخل فيها دفعة عن العصاة بأهل الطاعة وجاء في الأثر: أن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذريته ومن حوله وفي بعض الآثار يقول الله عز وجل: "أحب العباد إلي المتحابون بجلالي المشاؤن في الأرض بالنصيحة الماشون على أقدامهم إلى الجمعات" وفي رواية: "المتعلقة قلوبهم بالمساجد والمستغفرون بالأسحار فإذا أردت إنزال عذاب بأهل الأرض فنظرت إليهم صرفت العذاب عن الناس" وقال مكحول: ما دام في الناس خمسة عشر يستغفر كل منهم كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يهلكوا بعذاب عامة والآثار في هذا المعنى كثيرة جدا.

وقد روي في صيام النبي صلى الله عليه وسلم شعبان معنى آخر وهو أنه تنسخ فيه الآجال فروي بإسناد فيه ضعف عن عائشة قالت: كان أكثر صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان فقلت: يا رسول الله أرى أكثر صيامك في شعبان؟ قال: "إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت من يقبض فأنا لا أحب أن ينسخ اسمي إلا وأنا صائم".

وقد روي مرسلا وقيل: إنه أصح وفي حديث آخر مرسل: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له ولقد خرج اسمه في الموتى".

وروي في ذلك معنى آخر وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وربما أخر ذلك حتى يقضيه بصوم شعبان رواه ابن أبي ليلة عن أخيه عيسى عن أبيهما عن عائشة رضي الله عنها خرجه الطبراني ورواه غيره وزاد: قالت عائشة: فربما أردت أن أصوم فلم أطق حتى إذا صام صمت معه وقد يشكل على هذا ما في صحيح مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر لا يبالي من أية كان وفيه أيضا عنها قالت: ما علمته ـ تعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ صام شهرا كاملا إلا رمضان ولا أفطره كله حتى يصوم منه حتى مضى لسبيله وقد يجمع بينهما بأنه قد يكون صومه في بعض الشهور لا يبلغ ثلاثة أيام فيكمل ما فاته من ذلك في شعبان أو أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام مع الاثنين والخميس فيؤخر الثلاثة خاصة حتى يقضيها في شعبان مع صومه الإثنين والخميس.

وبكل حال فكان صلى الله عليه وسلم عمله ديمة وكان إذا فاته من نوافله قضاه كما كان يقضي ما فاته من سنن الصلاة وما فاته من قيام الليل بالنهار فكان إذا دخل شعبان وعليه بقية من صيام تطوع لم يصمه قضاه في شعبان حتى يستكمل نوافله قبل دخول رمضان فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض وكانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن المرأة لا تصوم وبعلها شاهد إلا بإذنه.

فمن دخل عليه شعبان وقد بقي عليه من نوافل صيامه في العام استحب له قضاؤها فيه حتى يكمل نوافل صيامه بين الرمضانين ومن كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه مع القدرة ولا يجوز له تأخيره إلى ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة فإن فعل ذلك وكان تأخيره لعذر مستمر بين الرمضانين كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني ولا شيء عليه مع القضاء وإن كان ذلك لغير عذر فقيل: يقضي ويطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا وهو قول مالك والشافعي وأحمد اتباعا لآثار وردت بذلك وقيل: يقضي ولا إطعام عليه وهو قول أبي حنيفة وقيل: يطعم ولا يقضي وهو ضعيف.

وقد قيل: في صوم شعبان معنى آخر: أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة بل قد تمرن على الصيام واعتاده ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.

ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن روينا بإسناد ضعيف عن أنس قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان وقال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن قال الحسن بن سهل: قال شعبان: يا رب جعلتني بين شهرين عظيمين فما لي؟ قال: جعلت فيك قراءة القرآن يا من فرط في الأوقات الشريفة وضيعها وأودعها الأعمال السيئة وبئس ما استودعها.

مضى رجب وما أحسنت فيه ... وهذا شهر شعبان المبارك

فيا من ضيع الأوقات جهلا ... بحرمتها أفق واحذر بوارك

فسوف تفارق اللذات قسرا ... ويخلي الموت كرها منك دارك

تدارك ما استطعت من الخطايا ... بتوبة مخلص واجعل مدارك

على طلب السلامة من جحيم ... فخير ذوي الجرائم من تدارك

 

 * كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ط ابن حزم

 

 

بدع في شهر رجب

يخص بعض الناس شهر رجب ببعض العبادات كصلاة الرغائب وإحياء ليلة (27) منه فهل ذلك أصل في الشرع؟ جزاكم الله خيراً.
 

تخصيص رجب بصلاة الرغائب أو الاحتفال بليلة (27) منه يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج كل ذلك بدعة لا يجوز، وليس له أصل في الشرع، وقد نبه على ذلك المحققون من أهل العلم، وقد كتبنا في ذلك غير مرة وأوضحنا للناس أن صلاة الرغائب بدعة، وهي ما يفعله بعض الناس في أول ليلة جمعة من رجب، وهكذا الاحتفال بليلة (27) اعتقادا أنها ليلة الإسراء والمعراج، كل ذلك بدعة لا أصل له في الشرع، وليلة الإسراء والمعراج لم تعلم عينها، ولو علمت لم يجز الاحتفال بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بها، وهكذا خلفاؤه الراشدون وبقية أصحابه رضي الله عنهم، ولو كان ذلك سنة لسبقونا إليها. والخير كله في اتباعهم والسير على منهاجهم كما قال الله عز وجل: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) متفق على صحته، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)) أخرجه مسلم في صحيحه ومعنى فهو رد أي مردود على صاحبه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) أخرجه مسلم أيضا. فالواجب على جميع المسلمين اتباع السنة والاستقامة عليها والتواصي بها والحذر من البدع كلها عملا بقول الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وقوله سبحانه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خَسِرَ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة))، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) أخرجه مسلم في صحيحه. أما العمرة فلا بأس بها في رجب لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب وكان السلف يعتمرون في رجب، كما ذكر ذلك الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه: (اللطائف) عن عمر وابنه وعائشة رضي الله عنهم ونقل عن ابن سيرين أن السلف كانوا يفعلون ذلك. والله ولي التوفيق.

نشرت في ( مجلة الدعوة ) العدد رقم ( 1566 ) في جمادى الآخرة 1417 هـ - مجموع فتاوى و مقالات متنوعة الجزء الحادي عشر

المفتى أو المستشار:
فضيلة الشيخ :-عبدالعزيز بن باز

 

 

 

هل لشهر رجب مزية على غيره ؟

شهر رجب هو أحد الأشهر الأربعة الحرم ، والأشهر الأربعة الحرم هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب ، كما قال تعالى : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين ) .
وقد ورد في هذا الشهر صلوات وأذكار لكنها ضعيفة لا تثبت بها حجة ، ولا تثبت بها سنة وإذا ثبت ذلك فإنه لا يجوز للإنسان أن يقول : هذا شهر محرم سأزيد فيه من صلاتي وسأزيد فيه من ذكري ، وأزيد فيه من صيامي أو ما أشبه ذلك .
لماذا لا يجوز ؟ لأن النبي صلى الله عليه على آله وسلم أدرك هذا الشهر .أليس كذلك ؟ هل زاد فيه على غيره ؟ لا .
إذا لم يزد فيه على غيره فليس من حقنا أن نقول إنه شهر محرم نزيد فيه على غيره ؛ لأننا نحن متبعون ولسنا مبتدعين . ولو أن إنسانا اتبع – فيما يتقرب فيه إلى الله – اتبع ذوقـه أو اتبع رأيه لأصبح بلا دين ، لأنه إنما يتبع هواه لقوله تعالى : (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) .
إذا علينا أن لا نخص شهر رجب إلا بما خصـه الله به ورسوله ، أنه شهر محرم يتأكد فيه اجتناب المحرمات ، وأنه لا يحل فيه القتال مع الكفار ، فإنه شهر محرم ، والأشهر الحرم لا قتال فيها إلا إذا بدؤونا بالقتال ، أو كان ذلك سلسلة قتالية امتدت إلى الشهر المحرم .

الشيخ محمد بن صالح العثيمين

 

 

القراء العشرة ورواتهم

القراء العشرة ورواتهم

 

مقال تعريفي 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد،،

فقد أصبح التعرف على علم القراءات وإدراك أطوراه غاية في الأهمية، ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفُه، وأولى ما يلزم بحثُه؛ ما كان لأصل دينهم قِوامًا، ولقاعدة توحيدهم عمادًا ونظامًا، وعلى صدق نبيهم ﷺ برهانًا، ولمعجزته ثبتًا وحجة.

ولا سيما أن الجهل ممدود الرِّواق، شديد النَّفاق، مستولٍ على الآفاق، فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين.

 

تعريف عام للقراءات:

علم القراءات على اصطلاح أحد أبرز أئمته، وهو ابن الجزري رحمه الله تعالى: هو علمٌ بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوًّا لناقله.

أي أنه يتناول ألفاظ القرآن الكريم من تخفيفٍ وتشديدٍ، ومدٍ وقصرٍ، وتسهيلٍ في الهمزات وتحقيقٍ، وما شابه من مظاهر أصول التلاوة القرآنية.

فهو فن له مصطلحاته الخاصة به كغيره من علوم الشريعة، ومراحله التي مرَّ بها حتى نضج نضوج الثمار اليانعة، وهذا الفن يزيد المسلم يقينًا في وثوقية النص القرآني، ووصوله إلينا سالمًا من أي زيادة أو نقصان، فضلًا عن التغيير والتبديل والتحريف.

فمثلًا نحن نقرأ في مصر بقراءة الإمام عاصم لراويه حفص، وأهل المغرب يقرؤون بقراءة الإمام نافع لراويه قالون، وأهل بلد آخر يقرؤون بقراءة أخرى وهكذا، فأهل كل بلد يقرؤون بما يسهل على لسانهم.

وعلم القراءات من أشرف العلوم لتعلقه بأشرف الكلام، وهو باب عظيم من أبواب خدمة كتاب الله وحفظه، وهو من عجائب القرآن التي لا تنقضي، ودراسته مما تُفنى فيه الأعمار، وهو ثغر عظيم لا يُوفَّق إليه إلا من أراد الله له الخير لقوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾

فتعلمه وجه من وجوه تعلم القرآن، وفضل العناية به كفضل العناية بالقرآن لقول النبي ﷺ:

«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

وقد صار لهذا العلم جهات تعنى بتدريسه، وخصصت له معاهدٌ وكلياتٌ خاصة،كمعاهد القراءات التابعة للأزهر الشريف في مصر، وقسم القراءات وعلومه في الجامعة الإسلامية في المدينة وغيرهما 
وهذا من عظيم شرف هذه الأمة على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كلام ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه هذا الإقبال، والبحث عنه لفظة لفظة، وإتقان تجويده، فلم يهملوا تحريكًا ولا تسكينًا ولا تفخيمًا ولا ترقيقًا، حتى ضبطوا مقادير المدات وتفاوت الإمالات وميزوا بين الحروف بالصفات، مما لم يهتد إليه فكر سابق ولا أمة سالفة.

ويسمى العالم بالقراءات الذي تلقاها بالمشافهة وأجيز بتعليمها لغيره مقرئًا، وطالب علم القراءات إما أن يكون مبتدئًا أو متوسطًا أو منتهيًا.

  • فالمبتدئ عند أهل الفن من حفظ القرآن بقراءة واحدة إلى ثلاث.
  • والمتوسط من حفظه بثلاث قراءات إلى خمس.
  • والمنتهي من عرف من القراءات أشهرها.

وفائدة هذا العلم الجليل حفظ القرآن من التحريف والتغيير، فلا يقرأ أحد إلا بوجه ثابت عن النبي ﷺ.

وهو تيسيرٌ على الأمة لاختلاف ألسنتها ولهجاتها، فقد كان القرآن ينزل أول الأمر بلهجة واحدة، ثم سأل النبي ﷺ ربه التخفيف لأمته.

وهو مورد عظيم لاستنباط المعاني والأحكام لدى أهل العلم.

والمشتغل بهذا العلم له أوفر الحظ والنصيب إن أخلص فيه لله تعالى، فلا يستوي في المرتبة من حفظ القرآن بقراءة واحدة مع من حفظه بقراءتين مع من جمع العشر المتواترة كلها، ولكلٍ درجات مما عملوا، وفي الحديث: «يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرآنِ اقْرَأ وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ [ أو منزلتك] عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُهَا».

ولذا فهذا العلم جليل، ومن أراد أن يسلك طريق هذا العلم فله أولًا أن يتقن قراءة واحدة بأحد رواياتها، ثم ينتقل إلى غيرها بعد أن يأذن له شيخه، وهذا من باب تعلم الأولى فالأولى وتعلق الآخر بالأول.

والحكمة الأساسية من تنوع القراءات القرآنية هو التيسير على الأمة والتخفيف عنها، قال تعالى: ﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ ﴾ وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ﴾.

فالعرب في زمن النبوة لم يكونوا كلهم على لسان واحد، وإنما كانوا على لهجات شتى، فمنهم الذي كان يهمز، ومنهم الذي يسهل الهمز، ومنهم الذي يبدل الهمز؛ فلا يستطيع أن ينطق: “إنما المؤمنون إخوة”، فيقول: “إنما المومنون إخوة”، ومنهم الذي يميل، ومنهم الذي يقلل ولا يستطيع أن يأتي بالفتح كاملًا، ومنهم الذي يقلب لام التعريف ميمًا، وعليها جاء حديث النبي ﷺ لما سأله الحِمْيَريُّ: هل من امبرِّ امصيام في امسفر؟ يقصد: هل من البر الصيام في السفر؟ فاضطر النبي ﷺ إلى استخدام لهجته ليفهمه الحكم الشرعي فقال: «ليس من امبرِّ امصيام في امسفر». أي: ليس من البر الصيام في السفر.

 فكان تنوع القراءات لهذا الغرض.

فمن المتواتر قراءة أبي عمرو البصري، وحمزة، والكسائي، وشعبة، لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ فيقولون ﴿ لَرَؤُفٌ رَّحِيمٌ ﴾ وهذه لغة أهل الحجاز، ومنها قول جرير:

ترى للمسلمين عليك حقًا
كفعل الوالد الرؤف الرحيم


والثابت أن اختلاف القراءات المتواترة كله من قبيل اختلاف التنوع لا التضاد، فإن هذا محال في كلام الله تعالى، إذ كيف يكون من مصدر واحد ويقع التناقض فيه.

فليس الاختلاف بالتشهي ولا بالتمني وإنما هو مأخوذ من فيِّ النبي ﷺ، ولا يجوز أخذ القراءات بالقياس والاجتهاد وإنما أساسه الرواية والنقل عن رسول الله ﷺ.

قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ۙ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ ۚ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۖ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾.

فإذا كان النبي ﷺ لا يملك حق تغيير حرف مكان حرف في كتاب الله، فغيره من باب أولى.

قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، واجتهاد الأئمة المتقدمين كان في الاختيار من بين الأحرف السبعة، ونسبة القراءة إلى الأئمة هي نسبة اختيار ولزوم ورواية واشتهار، وليست نسبة اختراع واجتهاد.

 

نزول القرآن على سبعة أحرف:

كان جبريل -عليه السلام- ينزل على الرسول ﷺ ليعرض عليه القرآن مصداقًا لقوله تعالى:

﴿ وإنه لتنزيل رب العالمين ﴾، وكان النبي ﷺ يتلو ما ينزل عليه لأصحابه ويعلمهم إياه، فكانوا يحفظونه، ويعملون به. مصادقًا لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾.

ولم يكن القرآن ينزل على كيفية واحدة، وإنما كان ينزل على سبعة أحرف كما دلَّت الأحاديث الصحيحة. تلك الأحرف التي تمثلت فيما بعد في القراءات القرآنية المشهورة التي نسمعها اليوم، والتي نُقِلت إلينا بالنقل الصحيح المتواتر. كما اشتهر عن السلف قولُهم: القراءة سنة متبعة يأخذها الآخر عن الأول.

وأحاديث نزول القرآن بالأحرف السبعة كثيرة مشهورة:

فعن عمرَ بنِ الخطاب -رضي الله عنه- قال: « سمعتُ هشامَ بنَ حكيمِ بنِ حِزامٍ يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله ﷺ، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله ﷺ، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلَّم فلبَّبته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورةَ التي سمعتك تقرأ؟، قال: أقرأنيها رسول الله ﷺ، فقلت: كَذَبْتَ، فإن رسول الله ﷺ، قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقتُ به أقوده إلى رسول الله ﷺ، فقلتُ: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تُقرئنيها، فقال رسول الله ﷺ: أرسله، اقرأ يا هشام، فقرأ عليه القراءة التي سمعتُه يقرأ، فقال رسول الله ﷺ: كذلك أُنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأتُ القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله ﷺ: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه ».

وعن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعتُهُ، فلم أَزَل أَستَزيدُهُ ويَزيدُني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ».

وفي حديث أبي بن كعب -رضي الله عنه-: « أن النبي ﷺ كان عند أضاةِ بني غِفارٍ، فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تَقرَأ أُمَّتُكَ القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تُطيق ذلك، ثم أتاه الثانية، فقال: إن الله يأمرك أن تَقْرَأَ أمتُك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تُطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأَيُّمَـا حرفٍ قرؤوا عليه فقد أصابوا».

وفي حديث آخرَ لأبيِّ بن كعب -رضي الله- قال: « لقي رسول الله ﷺ جبريلَ، فقال: يا جبريل، إني بُعثت إلى أمة أميين: منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قط، قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف ».

وعلى هذا تلقى الصحابة هذه الحروفَ منه ﷺ، وتفرقوا بعد ذلك في الأمصار، وهم على هذا الحال يُعلِّمون المسلمين، ويُقرؤون القرآن بما سمعوه من الرسول ﷺ بحروفه المختلفة.

 

معنى الأحرف السبعة:

وللعلماء في تعيين معنى الأحرف السبعة أقوال كثيرة، وهذا التعدد في تفسير حقيقة الأحرف السبعة مرجعه عدم ورود ما يفسرها من أحاديث النبي ﷺ أو أقوال الصحابة الرواة لهذه الأحاديث، لأن معنى هذه الأحرف كان واضحًا عندهم فلم تظهر الحاجة إلى السؤال عن معناها.

وبذلك احتاج العلماء إلى الاجتهاد في بيان هذا المصطلح، فاختلفوا على أقوال كثيرة، ولعل أقرب هذه الأقوال للصواب؛ أن الأحرف السبعة هي الوجوه القرائية السبعة المنزلة المرخص بها في اللفظ الواحد، بمعنى أن أقصى حدٍّ يمكن أن تبلغه الوجوه القرآنية في نطق الكلمة الواحدة هو سبعة أوجه.

فهي سبعة أوجه، في كيفيات مختلفة، نزل بها الوحي على قلب النبي ﷺ، عَلَّمها جبريل للنبي ﷺ وتلقاها الصحابة عنه، وهذه الأوجه تكون في الكلمة الواحدة، وهي للتوسعة.

وأكثر كلمات القرآن الكريم يُقرأ على وجه واحد، وبعضها يُقرأ على وجهين، وبعضها على ثلاثة، وغاية التوسعة وصلت إلى سبعة أوجه في الكلمة الواحدة. وهذه الأحرف السبعة منها ما نسخ في العرضة الأخيرة، وما بقي منها ونقل إلينا بالنقل المتواتر وتلقته الأمة بالقبول هو ما نعرفه اليوم بالقراءات العشر المتواترة.

وكانت هناك طائفة من الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- عُرفوا بالقرَّاء، واشتهروا بتعليم القرآن وإقرائه منهم: الخلفاء الأربعة، وأبيُّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن السائب، وأبو هريرة، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وغيرهم الكثير. وهؤلاء الصحابة هم الذين دارت عليهم أسانيد القراءات التي نقرأ بها اليوم.

وأخذ عن الصحابة عدد من التابعين وتتلمذوا على أيديهم، منهم: أبو العالية الرياحي، والمغيرة بن أبي شهابٍ المخزومي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش، وأبو الأسود الدؤلي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والأسود بن يزيد النَّخعيُّ، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن السائب، وخلق كثير. وهكذا تناقلت القراءات من النبي إلى طبقة الصحابة ثم إلى طبقة التابعين ومن بعدهم.

وبذلك يتبين لنا أن القراءات بدأت مع نزول القرآن، فهي مرتبطة به ارتباطًا وثيقًا، وتفرقت في الأمصار مع انتشار الفتح الإسلامي، وحفظها الصحابة ووعوها ونشروها لمن بعدهم.كما قال تعالى: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ ﴾

 

الإقراء في زمن عثمان رضي الله عنه:

بعد جمع القرآن على يد أبي بكر رضي الله عنه، ظلت الصحف التي جمعت عند أبي بكر طيلة حياته ثم عند عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- طيلة حياته ثم عند أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها.

وفي عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كثرت القراءات في العالم الإسلامي، وظهر النزاع والشقاق بين المسلمين، وهذا الاختلاف مفهوم متوقع، لأن القرآن كما قلنا نزل على سبعة أحرف، وتلقى الصحابة هذه الأحرف ونشروها في بلاد الإسلام، فمن الصحابة من كان يحفظ القرآن على حرف واحد، ومنهم من حفظه على حرفين، ومنهم من حفظه بأكثر من ذلك، وليس كل المسلمين آنذاك على دراية بكل الأحرف التي نزل بها القرآن وقرأ بها النبي ﷺ، فوصل هذا النزاع إلى عثمان فأمر بجمع المصاحف، وكتابتها برسم يحتمل أغلب الأوجه الصحيحة المتواترة التي قرأ بها النبي ﷺ، وأرسلها إلى المدن المشهورة وأرسل مع كل نسخة قارئًا يقرئ المسلمين من هذه النسخة بقراءة توافق قراءة أهل هذا المصر.

فكان مقصده -رضي الله عنه- جمع المسلمين على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول ﷺ، وصار بذلك معيار قبول القراءة القرآنية: التلقي بالسند المتصل عن رسول الله ﷺ، وموافقة رسم عثمان رضي الله عنه.

وهذا بخلاف الجمع الأول في عهد أبي بكر، فقد كان هدفه حفظ القرآن من الضياع بعد مقتل كثير من حملته في معركة اليمامة.

وأقبل جماعة من كل مصر من الأمصار على المصحف العثماني الذي أُرسل إليهم لتلقي القراءات وفق ما تلقاه المقرؤون عن النبي ﷺ، فبرز قراء التابعين في كل مصر من الأمصار.

وعقب فترة التابعين، تجرد قوم للقراءة والأخذ، واعتنوا بضبط القراءة أتم عناية، حتى صاروا في ذلك أئمة يقتدى بهم، ويرحل إليه، ويؤخذ عنهم، وأجمع أهل بلدهم على تلقي قراءاتهم بالقبول.

وكان القراء العشرة ورواتهم على رأس هؤلاء الأئمة.

 

بدايات التدوين لعلم القراءات:

– (السبعة، لابن مجاهد)

ظهر التدوين في علم القراءات، حينما ظهرت مرحلة التخصص والتجرد لعلم القراءات، فظهرت فكرة التحديد والاختيار، وذلك لكثرة الروايات والقراءات، وقلة الضبط. ففي أواخر القرن الثالث الهجري قام الإمام الجليل أبو بكر ابن مجاهد باختيار سبعة من القرَّاء، أراد بذلك أن يجمع الناس على قراءاتهم للتخفيف والتسهيل، واقتصر على هذه القراءات السبعة بعد تنقيحها والتثبت من تواترها، وذلك في كتابه المعروف: “السبعة في القراءات”، وكان رحمه الله حجةً في القراءات والحديث، فهو شيخ الصنعة، وكان ثقةً علامةً كبيرًا.

ويقال أنه اقتصر على هذا العدد لأنه أراد أن يجعل عدد القراء على عدد المصاحف التي أرسلها عثمان -رضي الله عنه- إلى الأمصار، وقيل أنه أراد أن يجعلهم على عدد الأحرف التي نزل بها القرآن، فليس المراد بالأحرف السبعة القراءات السبعة التي اختارها ابن مجاهد.

وهؤلاء الأئمة السبعة الذين اختار ابن مجاهد -رحمه الله تعالى- قراءتهم هم: الإمام نافع المدني، والإمام ابن كثير المكي، والإمام أبو عمرو البصري، والإمام ابن عامر الشامي، ومن الكوفيين اختار ثلاثةً من الأئمة؛ هم الإمام عاصم ابن أبي النَّجود، والإمام حمزة الزيات، والإمام الكسائي، رضي الله عنهم أجمعين.

كما اختار ابن مجاهد لكل قارئ راويين من أضبط رواته، محاولةً منه -رضي الله عنه- في حصر أوجه الخلاف بين القراءات، وحفظًا للمتواتر منها، وتسهيلًا على الحفاظ، وبيانًا لاختلاف المرويات عن القارئ الواحد.

وهذه الفكرة -أعني فكرة التحديد والاختيار من القراءات وفق أركانٍ وشروطٍ- قام بها أئمة كثيرون من الذين ألفوا في هذا العلم.

– (التيسير لأبي عمرو الداني، ونظمه للشاطبي)

وتتابع على نهج الإمام ابن مجاهد في تسبيع القراءات أئمة؛ منهم الإمام أبو عمرو الداني في كتابه: “التيسير”، والإمام الشاطبي في نظمه لكتاب التيسير والمسمى بـ“حرز الأماني ووجه التهاني”.

وهذا الاختيار ازداد رسوخًا وقبولًا عند أئمة الإقراء من بعده، ومنهم الإمام الشاطبي؛ أبو القاسم بن فِيرُّه بن خلف بن أحمد الشاطبي الأندلسي الرعيني الضرير ( ت: ٥٩٠ هـ ) الذي نظم كتاب التيسير للإمام الداني والذي صنفه الإمام الداني على نهج الإمام ابن مجاهد تقريرًا للأئمة السبعة الذين اختارهم.

يقول الشاطبي رحمه الله:

وفي يسرها التيسير رمت اختصاره
فأجنت بعون الله منه مُؤمَّلا

ولاقت هذه القصيدة -التي سماها الإمام: “حرز الأماني ووجه التهاني”- قبولًا واسعًا، كما قال الناظم رحمه الله تعالى:

وسميتها حرز الأماني تيمنًا
ووجه التهاني فاهنه متقَبِّلًا

وهي قصيدة ألفية لامية من البحر الطويل، شرح فيها الإمام الشاطبي أصول القراء السبعة، واختيار كل قارئ ومذهبه في الأصول والفرش بطريقة الرمز، فكل قارئ أو راو له رمز، وهذه القصيدة ساحرة في فصاحتها وبلاغتها، فلم يكن الشاطبي -رحمه الله- يضع فيها أي لفظ هكذا.

يقول عنه الإمام ابن الجزري -رحمه الله-: كان إمامًا أعجوبةً في الذكاء، كثير الفنون، آية من آيات الله تعالى، غايةً في القراءات، حافظًا للحديث، بصيرًا بالعربية، إمامًا في اللغة، رأسًا في الأدب مع الزهد والولاية والعبادة والانقطاع. ويقول عن قصيدته الشاطبية: ولقد رُزِقَ هذا الكتاب من الشهرة -يعني قصيدة الشاطبية- والقبول ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن، بل أكاد أقول: ولا في غير هذا الفن، فإنني لا أحسب أن بلدًا من بلاد الإسلام يخلو منه، بل لا أظن أن بيت طالب علم يخلو من نسخة منه.

وتتابع الأئمة وتسارعوا على هذه القصيدة بالشرح ومن أبرزهم؛ الإمام السخاوي تلميذ الإمام الشاطبي ومن أجلِّ أصحابه في شرحه “فتح الوصيد في شرح القصيد”، وهو أنفس شروح الشاطبية وأوسعها، والإمام الفاسي في شرحه “اللآلئ الفريدة في شرح القصيدة”، والإمام شعلة في شرحه “كنز المعاني”، والإمام أبي شامة المقدسي في شرح “إبراز المعاني”، وغيرهم.

وهذه القصيدة حوت إلى جانب القراءات كثيرًا من معاني الإيمان والتزكية والتمسك بكتاب الله عز وجلَّ، يقول فيها الناظم رحمه الله تعالى:

وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ
وَأَغْنى غَنَاءٍ وَاهِبًا مُتَفَضِّلاَ

وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ
وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً

وَحَيْثُ الْفَتَى يَرْتَاعُ فيِ ظُلُمَاتِهِ
مِنَ اْلقَبرِ يَلْقَاهُ سَناً مُتَهَلِّلاً

هُنَالِكَ يَهْنِيهِ مَقِيلاً وَرَوْضَةً
وَمِنْ أَجْلِهِ فِي ذِرْوَةِ الْعِزّ يجتُلَى

يُنَاشِدُ في إرْضَائِهِ لحبِيِبِهِ
وَأَجْدِرْ بِهِ سُؤْلاً إلَيْهِ مُوَصَّلاَ


ويقول رحمه الله تعالى:

وَعِشْ سَالماً صَدْراً وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
تُحَضَّرْ حِظَارَ الْقُدْسِ أَنْقَى مُغَسَّلاَ

وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتِي
كَقَبْضٍ عَلَى جَمْرٍ فَتَنْجُو مِنَ الْبَلاَ

وَلَوْ أَنَّ عَيْنًا سَاعَدتْ لتَوَكَّفَتْ
سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِ دِيمًا وَهُطَّلاَ

وَلكِنَّها عَنْ قَسْوَةِ الْقَلْبِ قَحْطُهاَ
فَيَا ضَيْعَةَ الأَعْمَارِ تَمْشِى سَبَهْلَلاَ

بِنَفسِي مَنِ اسْتَهْدَىَ إلى اللهِ وَحْدَهُ
وَكانَ لَهُ الْقُرْآنُ شِرْبًا وَمَغْسَلاَ

وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ فَتفَتَّقَتْ
بِكُلِّ عَبِيرٍ حِينَ أَصْبَحَ مُخْضَلاَ

فَطُوبى لَهُ وَالشَّوْقُ يَبْعَثُ هَمَّهُ
وَزَنْدُ الأَسَى يَهْتَاجُ فِي الْقَلْبِ مُشْعِلاَ

هُوَ المُجْتَبَى يَغْدُو عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ
قَرِيباً غَرِيباً مُسْتَمَالاً مُؤَمَّلاَ

ويقول رحمه الله تعالى:

رِوَى الْقَلْبِ ذِكْرُ اللهِ فَاسْتَسْقِ مُقْبِلًا
وَلاَ تَعْدُ رَوْضَ الذَّاكِرِينَ فَتُمْحِلَا

وَآثِرْ عَنِ الآثَارِ مَثْرَاةَ عَذْبِهِ
وَمَا مِثْلُهُ لِلْعَبدِ حِصْنًا وَمَوْئِلَا

وَلاَ عَمَلٌ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِهِ
غَدَاةَ الْجَزَا مِنْ ذِكْرِهِ مُتَقَبَّلَا

ويصف -رحمه الله- حال صاحب القرآن؛ الصادق في صحبته، المداوم على ورده:

ومَنْ شَغَلَ الْقُرْآنُ عَنْهُ لِسَانَهُ
يَنَلْ خَيْرَ أَجْرِ الذَّاكِرِينَ مُكَمَّلَا

وَمَا أَفْضَلُ الأَعْمَالِ إِلاَّ افْتِتَاحُهُ
مَعَ الْخَتْمِ حِلاًّ وَارْتِحاَلًا مُوَصَّلَا

ومع هذه البراعة وهذا الضبط، يضرب لنا هذا الإمام الرباني مثلًا في تواضع العلماء، فيقول عن قصيدته:

أَخي أَيُّهَا الْمُجْتَازُ نَظْمِي بِبَابِهِ
يُنَادَى عَلَيْهِ كَاسِدَ السُّوْقِ أَجْمِلاَ

وَظُنَّ بِهِ خَيْراً وَسَامِحْ نَسِيجَهُ
بِالاِغْضاَءِ وَالْحُسْنَى وَإِنْ كانَ هَلْهَلاَ

وَسَلِّمْ لإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِصَابَةٌ
وَالُاخْرَى اجْتِهادٌ رَامَ صَوْبًا فَأَمْحَلاَ

وَإِنْ كانَ خَرْقٌ فَادرِكْهُ بِفَضْلَةٍ
مِنَ الْحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنْ جَادَ مِقْوَلاَ

ويقول أيضًا:

وَبِاللهِ حَوْلِى وَاعْتِصَامِي وَقُوَّتِى
وَمَاليَ إِلاَّ سِتْرُهُ مُتَجَلِّلاَ

فَيَا رَبِّ أَنْتَ اللهُ حَسْبي وَعُدَّتِي
عَلَيْكَ اعْتِمَادِي ضَارِعًا مُتَوَكِّلاَ



– (ابن الجزري وكتابه النشر)

بعد الإمام ابن مجاهد والإمام أبي عمرو الداني والإمام الشاطبي ودورهم في تقرير قراءات القرَّاء السبعة، وبعد أن رسخت في الأمة أسانيد هذه القراءات ومعرفة رواتها، استمر انفراد القراءات السبع بالتواتر والقبول حتى نهاية القرن الثامن ومطلع القرن التاسع الهجري، ثم جاء من أئمة الإقراء من يظهر أولوية بعض القراءات التي لم يتناولها الإمام ابن مجاهد، وسطع نجم شيخ القراء الإمام شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف العمري الدمشقي الشيرازي المعروف بابن الجزري -رحمه الله تعالى- فقد اعترض على عدم تضمين بعض القراءات كقراءة الإمام أبي جعفر المدني، وهو شيخ الإمام نافع المدني وأعلى سندًا منه، وقراءة الإمام يعقوب الحضرمي، وقراءة الإمام خلف بن هشام البزار.

فقام الإمام ابن الجزري بإثبات تواتر أسانيد هؤلاء القراء الثلاثة في كتابه: “تحبير التيسير”، ونظم في هذه القراءات الثلاث نظمه المعروف بالدرة المضية في القراءات الثلاث المرضية، واختار لكل قارئ من القراء الثلاثة راويين جريًا على سنة ابن مجاهد للتيسير على الأمة.

وهذه الإضافة من الإمام ابن الجزري ليست مبنية على عواطف انفعالية عنده، وإنما هي نتيجة علمية مبنية على أدلة علمية قوية تثبت تواتر هذه القراءات الثلاث، ولذا ذكر ابن الجزري في كتابه “منجد المقرئين” كلام العلماء في تواتر هذه الثلاثة، وسمى كثيرًا من العلماء في طبقات مختلفة قرأوا بهذه الثلاثة وقال رحمه الله: ولعمري ما فاتني لكثيرٌ؛ لأني لم أذكر إلا من تحققت أنه قرأ بها، وكلهم مذكورون مُتَرجمون في كتابي “طبقات القراء” فثبت من ذلك أن القراءات الثلاث متواترة تلقاها جماعة من جماعة مستحيل تواطئهم على الكذب. وبهذه القراءات الثلاث مع السبع التي نظمها الإمام الشاطبي تمت القراءات عشرًا.

ثم بعد ذلك اجتهد الإمام ابن الجزري في خدمة القراءات، واستيعاب ما كتب في القراءات بما لديه من آلة هذا العلم، ودرس أسانيدها، فاطلع على كثير من كتب هذا الفن بما فيهم شروح الشاطبية، حتى استخلص كتابه العظيم الذي صنفه، وهو “النشر في القراءات العشر”، وأورد فيه وجوهًا أخرى لم يستوعبها الإمام أبو عمرو الداني في كتابه “التيسير”، ولا الإمام الشاطبي في منظومته. ونظم -رحمه الله- نظمًا جديدًا للقراءات العشر سماه “طيبة النشر في القراءات العشر

واصطلح على سبعة الإمام ابن مجاهد مع ثلاثة ابن الجزري التي أكملها أولًا بالقراءات العشر الصغرى، أما القراءات العشر التي حررها ابن الجزري بالطرق التي لم يستوعبها من سبقه فاصطلح عليها بالقراءات العشر الكبرى.

وقد كان الإمام ابن الجزري -رحمه الله- إمامًا حافظًا، عاش حياة طويلة حافلة بالتنقل والترحال، والدرس والأخذ عن الشيوخ، وقراءة الكتب عليهم، وحلقات التعليم والإقراء، والكتابة والتأليف، ويعد هذا الإمام محقق علم القراءات ورائد نهضة علومها في زمانه، كما أن إضافاته في علم التجويد بالتأليف من أنفس ما كتب.

ومنظومته: المقدمة فيما يجب على قارئ القرآن أن يعلمه، المعروفة بـ “الجزرية” هي من أشهر متون علم التجويد، ولها شروح كثيرة، والدارسون لعلم التجويد لا بد وأن يمروا عليها.

يقول الإمام ابن الجزري عن نفسه متحدثًا بفضل الله عليه في غزارة علمه وضبطه لهذا الفن وتشجيعه طلبة العلم أن يأتوا إليه فيأخذوا عنه هذا العلم: مع أني ألتزم أنه من جاءني من طلبة القراءات فإني أقرئه جميع القرآن بالقراءات العشر بمضمن النشر والطيبة، وما دخل فيها في شهر واحد إلا أن تكون إعاقته من نفسه، فغاية ما يغيب واحد منكم عن بلده ثلاثةُ أشهرٍ، ويعود إمامًا لا يشاركه في علمه بهذا الفن أحد، الذي لا أعلم أحدًا اليوم على وجه الأرض يعرفه إلا من قرأه عليَّ.

وقال عنه تلميذه ابن حجر في كتابه إنباء الغمر: الحافظ الإمام، المقرئ، شمس الدين، انتهت إليه رئاسة علم القراءات في الممالك، وكان يُلَقَّبُ في بلاده: الإمام الأعظم.

ومما يحكى عن هذا العَلَمِ؛ عنايته الشديدة بأولاده إناثًا وذكورًا، حتى أنه ترجم لأربعة منهم في كتابه الفذ “غاية النهاية في طبقات القراء”. ونذكر منهم؛ بنته سلمى بنت محمد بن محمد بن محمد الجزري، فإنها حظيت من بين أخواتها بترجمة في كتاب أبيها: “غاية النهاية”، فقد حفظت القرآن في سنٍ مبكرة، وحفظت “مقدمة التجويد” وعرضتها، و”مقدمة النحو”، و”طيبة النشر”، و”الألفية”، وعرضت القرآن على أبيها بالقراءات العشر قراءة صحيحة مجودة مشتملة على جميع أوجه القراءات، وتعلمت العروض والعربية، ونظمت بالعربية والفارسية.

وكذا كان حال بقية أولاده؛ كما قال عنهم طاش كبري زاده: وجميع هؤلاء من القراء المجودين والمرتلين، ومن الحفاظ المحدثين، فطاب أصلٌ هؤلاء فروعه، وطوبى لفروعٍ هذا أصلهم، ويا حبذا بيت هؤلاء أهله، وفخرًا لساكن مثل هذا البيت محله، رضي الله عنهم وأرضاهم.


– (القراء العشرة ورواتهم)

وبهذا انحصر المقبول من القراءات المتواترة عن النبي ﷺ في هذه القراءات العشر، التي ابتدئها ابن مجاهد في كتابه السبعة وأكمل عليها ابن الجزري فيما بعد في كتابه النشر، وهم:

الإمام نافع المدني وراوياه قالون وورش، وقراءة نافع ترجع إلى أبي بن كعب.

الإمام ابن كثير المكي وراوياه البزي وقنبل، وقراءة ابن كثير ترجع إلى أبي بن كعب وزيد ابن ثابت.

الإمام أبو عمرو البصري وراوياه الدوري والسوسي، وقراءة أبي عمرو ترجع إلى أبي بن كعب وزيد بن ثابت.

الإمام ابن عامر الدمشقي وراوياه هشام وابن ذكوان، وقراءة ابن عامر ترجع إلى عثمان بن عفان وأبي الدرداء.

الإمام عاصم الكوفي وراوياه شعبة وحفص، وقراءة عاصم ترجع إلى علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان، وأبي، وزيد.

الإمام حمزة الكوفي وراوياه خلف وخلاد، وقراءة حمزة ترجع إلى علي وابن مسعود.

الإمام الكسائي الكوفي وراوياه أبو الحارث والدوري، وقراءة الكسائي ترجع إلى علي وابن مسعود.

الإمام أبو جعفر المدني وراوياه ابن وردان وابن جماز، وقراءة أبي جعفر ترجع إلى أبي وزيد.

الإمام يعقوب الحضرمي وراوياه رويس وروح، وقراءة يعقوب ترجع إلى أبي وزيد وأبي موسى الأشعري.

وأخيرًا الإمام خلف البزار وراوياه إسحاق وإدريس، وقراءته ترجع إلى أبي وزيد.

وأصبح ما زاد على هذه القراءات العشر يعد من القراءات الشاذة التي لم يتحقق فيها شروط التواتر التي وضعها الأئمة المتقدمون كابن مجاهد ومن بعده ابن الجزري في اختياراتهم والتي تتابع قبولها في الأمة.

وعليه فمن قرأ في الصلاة بأي رواية من الروايات العشرين الواردة عن القراء العشرة فقد أصاب، فالقراءات العشر المتواترة كلها القرآن. على أنه ينبغي للإمام إن أراد الصلاة برواية أخرى غير التي قد تعاهد عليها أهل بلده أن ينبههم قبل الصلاة أنه سيقرأ بروية كذا دفعًا للاستغراب وتوهم الخطأ، فلربما سارع بعض المصلين بالفتح على الإمام ليصوب له والإمام لم يخطئ.

كما أن الإمام إن كان عالمًا بالقراءات متقنًا لأدائها فإنه يحسن به الصلاة بها، وإسماع المسلمين لها، فإن في هذا إحياء لسنة القراءة بالقراءات المتواترة التي قرأ بها النبي ﷺ وأسمعها لصحابته رضوان الله عليهم، وإعلام للمسلمين بتعدد قراءات القرآن، وربما كان هذا تشجيعًا لهم ليتعلموا هذا العلم، وفي هذا أجر عظيم وثواب جزيل.

فالحمد لله الذي هيأ لهذا الكتاب رجالًا حفظوه للأمة غضًا طريًا كما أنزل على نبيه ﷺ، فالحمد لله القائل: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.


خارطة القراءات في العالم الإسلامي:

يرى الناظر في تاريخ علم القراءات أن انتشار بعض الروايات في أزمانٍ وأقاليمَ معينةٍ يعود إلى عدد من الأسباب، منها:

  • توطن القارئ أو الراوي في بلد، وشيوع قراءته في هذا الإقليم، كابن عامر -رحمه الله- الذي توفي سنة (١١٨ هــ) وله من العمر سبع وتسعون سنة، والذي ولي القضاء بدمشق وكان إمام الجامع بها.
  • ومنها عدم تمكين القارئ الناس من القراءة عليه؛ لعلة يراها، كما فعل شعبة بن عياش (ت:193هــ) الراوي عن عاصم، فقلت قراءة أهل الكوفة لرواية شعبة وصار الغالب عليهم قراءة حمزة بن حبيب الزيات.
  • ومنها انتقال نقلة القراءة من بلد إلى بلد آخر، مثلما حصل لقراءة الإمام نافع رحمه الله، عندما انتقل كثير من رواتها من الحجاز ومصر إلى المغرب وإفريقية، بحيث أصبحت قراءة نافع هي الفاشية في تلك الديار.
  • ومنها النقل المزدوج للقراءة والمذهب الفقهي عند النقلة الأوائل للقراءة، ورغبة المتفقهة القراءة بقراءة إمامهم في الفقه؛ كالإمام مالك -رحمه الله- الذي أخذ القراءة عن الإمام نافع المدني، وكان يقول :”قراءة نافع سنة”.
  • وكذلك إشاعة قراءةٍ من قِبَلِ أحد العلماء، كما حدث من سُبيع بن المُسَلَّم المعروف بابن قيراط (ت:٥٠٨ هــ) شيخ دمشق ومقرئها الضرير، الذي نشر قراءة الإمام أبي عمرو البصري في الشام.
  • وكذلك تدخل ذوي السلطان من الأمراء، والقضاة، والواقفين ونحوهم في تعليم قراءة القرآن أو القراءة برواية أو قراءة ما.
  • ومنها اليسر والسهولة في القراءة أو الراوية؛ مما يجعل تلقينها وتعلمها وانتشارها متاحًا وميسرًا، كما نرى اليوم من انتشار رواية حفص عن عاصم.
  • ولا نغفل أن الامتداد الزمني والجغرافي للخلافة العثمانية، مع الاهتمام البالغ من الأتراك بالخط العربي، وتوظيف خط النسخ في كتابة المصاحف وفق رواية حفص عن عاصم، وبخاصة المصاحف التي كتبها كبار الخطاطين الأتراك؛ كالحافظ عثمان (ت: ١١١٠ هــ)، وشميشر الحافظ (ت: ١٢٣٦ هــ)، ثم ظهور المطابع فطبعت منها المصاحف، كل ذلك ساعد على انتشار رواية حفص في الأمصار والأقاليم الشرقية من العالم الإسلامي.

وتعد الروايات المشتهرة على مستوى عامة الناس اليوم أربع روايات:

حفص عن عاصم؛ وهي الرواية التي عليها معظم العالم الإسلامي: في الشرق العربي، وجنوب آسيا، وشبه القارة الهندية، وتركيا، وإيران، وأفغانستان، والجمهوريات الإسلامية في روسيا.

وقد كان أهل مصر يقرؤون برواية ورش عن نافع إلى أواخر القرن الخامس الهجري، ثم انتقلوا إلى قراءة أبي عمرو البصري، واستمر العمل عليها قراءة وكتابة في مصاحفهم إلى منتصف القرن الثاني عشر الهجري، كما صرح بذلك العلَّامة الضباع في كتابه “الإضاءة في بيان أصول القراءة”.

رواية ورش عن نافع؛ وتنتشر القراءة بها في المغرب العربي على وجه العموم، وبعض الدول الإفريقية، مثل: تشاد، ونيجيريا.

رواية قالون عن نافع؛ وتشتهر في ليبيا، وبعض الدول المغاربية؛ كتونس، والجزائر، وفي جزء من إفريقية؛ كموريتانيا.

رواية الدوري عن أبي عمرو البصري؛ ويُقرأ بها في الصومال، وتشاد، والريف السوداني.

أنواع القراءات:

وضع العلماء شروطًا لصحة القراءة وقبولها والجزم بأن النبي ﷺ قد قرأ بها ولم تُنسخ في العرضة الأخيرة، وهي:

– التواتر أو صحة الإسناد

– أن توافق رسم أحد المصاحف العثمانية التي أرسلها عثمان إلى الأمصار.

– أن توافق وجهًا من وجوه اللغة العربية.

وعليه فمتى تحقق في القراءة هذه الشروط الثلاثة حكم بتواترها كما في القراءات العشر حصرًا، ومتى خالفت القراءة أحد هذه الشروط حكم عليها بأنها قراءة شاذة وهو ما زاد عن القراءات العشر.

وهنا السؤال؛ ما الأسباب التي أدت إلى وجود قراءة تخالف هذه الشروط؟

والجواب: إن كثيرًا من الصحابة القراء لم يشهد العرضة الأخيرة للقرآن ولم يعلم ما نُسخ فيها من القرآن، فظل يقرأ به ويُقرئه. فقد تكون القراءة منسوخة ولم يعلم الصحابي الراوي بنسخها لعدم شهوده العرضة الأخيرة فاستمر إقراؤه بها، أو أنه علم بنسخها وتوقف عن القراءة بها لكنها ظلت تُنقل عنه.

كما أن بعض الصحابة كان يكتب في مصحفه الخاص بعض التفسيرات ويدرج في مصحفه بعض الإضافات على وجه التفسير، ثم أشيعت وانتشرت على أنها آية.

وبعض القراءات هي مكذوبة ولا أصل لها ولا إسناد، كالقراءة التي يذكرها الشيعة ويدعون إسقاطها من سورة الشرح، وهي: (وجعلنا عليا صهرك)، وقولهم: (وما كنت متخذ المضليْن عضدًا) فيجعلونها بالتثنية لا بلفظ الجمع يقصدون بهذا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. والقراءة التي يذكرها المعتزلة: (وكلم اللهَ موسى تكليمًا) بنصب الهاء، لإثبات أن الكلام كان من موسى لربه لينفوا عن الله تعالى صفة الكلام انتصارًا لبدعتهم. وهذه القراءات موضوعة لا أصل لها.

لذلك كان دور أئمة الإقراء بعدما قل الضبط في المائة الثالثة من الهجرة أن يميزوا بين المقبول والمردود من القراءات ليحفظوا المتواتر منها للأمة من بعدهم، فاستقر قولهم على أن المتواتر هو القراءات العشر وما وراءها فهو من القراءات الشاذة التي لا يجوز التعبد بها في الصلاة، ويجوز الاستعانة بها فقط في التفسير واستنباط الأحكام الفقيهة على قول أهل العلم بضوابط معروفة عندهم، لأن كون القراءة الشاذة ليست قرآنًا لا يعني ذلك نفيًا لخبريتها ودلالتها في اللغة، خاصة إن كان الراوي لها من الثقات.

القراءات والتفسير:

المتأمل لاختلاف القراءات يجدها بابًا عظيمًا في إظهار البلاغة، فمع كثرته وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد، ولا تناقض، ولا تخالف، بل كله يصدق بعضه بعضًا، ويبين بعضه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد، وأسلوب واحد، فأنت إذا قرأت الكلمة القرآنية بقراءات متعددة فإنها تدلك على معانٍ وأحكام شرعية متعددة دون تكرار اللفظ وإعادة الخط.

وقد يكون اختلاف القراءات بدلالة واحدة، وقد يكون لكل قراءة دلالة واعتبار، وكلاهما مراد، وليس أحدهما أولى بالآخر. وتأمل هذين المثالين؛ في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾

هنا قرأ ابن عامر: ﴿فَأُمَتِّعُهُ﴾ بالتخفيف من أَمْتَعْتُ، وقرأ الباقون: بتشديد التاء من مَتَّعْتُ.
فقراءة التخفيف لها ما يوافقها في واقع الأمر، وفي دلالة اللفظ الظاهر، أي: التعبير بالوصف: ﴿قَلِيلًا﴾. وقراءة التشديد لها ما يوافقها من حال الكفار ورؤيتهم القاصرة، فالكافر يُزَيَّنُ له كثرة المتاع وإن قل، ويتوهمه مستمرًا وإن كان أمده في الدنيا قصيرًا. وقد قال جلَّ في علاه: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ فهنا ينبغي التنبه إلى أن تنوع الدلالات مقصود وله اعتبار.

وفي قوله تعالى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ﴾ ففي المتواتر: ﴿ فنُنْجِي مَن نَّشَا ﴾، وفي هذا التنوع بيان لسنة الله تعالى في القرون السالفة، وديمومة هذه السنة في المستقبل.

وهذا من إعجاز القرآن بلا شك، ويستفيد منه الباحث في أي فرع من فروع العلم؛ سواءً الفقه، أو الحديث، أو العقيدة، أو علوم اللغة.

والوقوف عند اختلاف القراءة والتأمل في توجيهه من حيث اللغة من أعظم أبواب التمتع بكلام الله تعالى، وهو ما كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين من بعدهم، وهناك علم خاص يُعنى بهذا الباب يسمى علم توجيه القراءات، وفيه مصنفات كثيرة؛ ككتاب “الحجة في القراءات السبع” لأبي علي الفارسي، وكتاب “الحجة في القراءات السبع” لابن خالويه، وكتاب “حجة القراءات” لابن زنجلة، ومن الكتب المعاصرة كتاب “الكشف عن مشكل القراءات العشرية الفرشية” للدكتور عبد العزيز الحربي.

القراءات وعلم التجويد:

عُرِّف التجويد عند أهل الفن بأنه: إعطاء الحرف حقه ومستحقه. وأما ما في الحرف من أوجه القراءة فهذا من علم القراءات، ولذا قال مكي بن أبي طالب: ولست أذكر فيه -يعني كتابه الرعاية- إلا ما لا اختلاف فيه بين أكثر القرَّاء، فيجب على كل من قرأ بأيِّ حرف ٍكان من السبعة؛ أن يأخذ نفسه بتحقيق اللفظ وتجويده، وإعطائه حقه على ما نذكره مع كل حرف في هذا الكتاب.

وقال في موضع آخر: وقد تقدَّم ذكرُ أصول القرَّاء واختلافهم في الهمز، وغير ذلك من أحكام بغير هذا الكتاب فلا حاجة لنا بذكر ذلك، وكذلك ما شابهه فليس هذا كتاب اختلافٍ، وإنما هو كتاب تجويد ألفاظٍ ووقوفٍ على حقائقِ الكلام، وإعطاء اللفظ حقه ومعرفة أحكام الحروف التي ينشأ الكلام منها مما لا اختلاف في أكثره.

وقد اعتمد محمد بن أبي بكر المرعشي على كلام مكي بن أبي طالب، فقال: القراءات علمٌ يُعرف فيه اختلاف أئمة الأمصار في نظم القرآن في نفس حروفه أو في صفاتها، أما التجويد فالغرض منه معرفة ماهيات صفات الحروف.

وقال أيضًا: اعلم أن علم القراءة يخالف علم التجويد، إذ أن المقصود من الثاني معرفة حقائق صفات الحروف، مع قطع النظر عن الخلاف فيها، مثلًا يُعرفُ في علم التجويد أن حقيقة التفخيم كذا وحقيقة الترقيق كذا، وفي القراءة يُعرَفُ فخَّمها فلان ورقَّقها فلان.

وخلاصة القول: إن التجويد: هو تحسين اللفظ، وإعطاء كل حرف حقه من المخرج والصفات، وما يلحقه في التركيب من أحكام، والقراءات: هي بيان الأوجه الواردة في اللفظ، وضبط وجوه النطق بها. والرابط بين علم التجويد وعلم القراءات؛ أن كليهما مرتبطٌ بأحرف القرآن، ولكلٍ منهما تميُّزٌ واختصاصٌ.

لمحات من سير أعلام القرَّاء :

  1. روي عن سليمان بن جماز -راوي الإمام أبي جعفر-: شهدت أبا جعفرٍ حين حضرته الوفاة، فجاءه أبو حازمٍ الأعرج، ومشيخة معه كانوا من جلسائه، فانكبوا عليه يصرخون، فلم يجبهم، فقال شيبة: ألا أريكم عجبًا؟ قالوا: بلى، قال: فكشف عن صدره، وإذا دوارةٌ بيضاء مثل اللبن، فقال أبو حازمٍ وأصحابه: هذا -والله- نور القرآن.

    وقال نافعٌ: لما غُسِّل أبو جعفر القارئ بعد وفاته نظروا، فإذا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شكَّ أحدٌ ممن حضر أنه نور القرآن.
  2. وكان الإمام نافع -رحمه الله- إذا تكلم يُشمُّ من فِيهِ رائحة المسك، فسئل: أتتطيب كلما قعدت تقرئ الناس؟ قال: ما أَمَسُّ طيبًا، ولكني رأيت فيما يرى النائم النبيﷺ، وهو يقرأ القرآن في فيَّ، فمن ذلك الوقت أشمُّ في فيَّ هذه الرائحة.

    وقال المُسيَّبيُّ: قيل لنافع: ما أصبحَ وجهك وأحسن خلقك! قال: كيف لا أكون كذلك، وقد صافحني رسول الله ﷺ، وعليه قرأت القرآن في النوم.
  3. وقال أبو محمد البغدادي عن قالون: كان قالون أصمَّ شديد الصمم، لا يسمع البوق، فإذا قرئ عليه القرآن سمعه.

    وكان قالون يُقرأ عليه القرآن، فينظر إلى شفتي القارئ، فيفهم خطأه إن أخطأ، فيردَّ عليه اللحن والخطأ في القراءة.
  4. كان أبو عمرو البصري صاحب زهدٍ وتقوى، يراقب الله ويخشاه، وقد استمر مدة طويلة يختم المصحف في كلِّ ثلاث ليالٍ، وعليه قرأ عبد الله بن المبارك، والخليل بن أحمد، والأصمعي، وسيبويه، وغيرهم.
    وكان قد نقش على فصِّ خاتمه هذا البيت:

    وإنَّ امرأً دنياه أكبرُ همِّه
    لمستمسكٌ منها بحَبلِ غرورِ

  5. قال أبو بكرٍ شعبة بن عَيَّاشٍ: قال لي عاصمٌ: مرضت سنتين، فلما قمت قرأت القرآن، فما أخطأت حرفًا!
  6. قال يحيى اليماني: لما حضرت الوفاة أبا بكرشعبة  بن عياش بكت أخته، فقال لها: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية، فقد ختم أخوك فيها ثمانية عشر ألف ختمة!
  7. وهذا الإمام حمزة الزيات؛ شهد له العلماء بالفضل والعلم، وكان شيخه الأعمش إذا رآه مقبلًا يقول: (هذا حبر القرآن)، ورآه يومًا مقبلًا، فقال: (وبشِّر المحسنين).

    وروي عن سفيان الثوري: ما قرأ حمزة حرفًا من كتاب الله إلا بأثر.
  8. وقال بعض العلماء عن الإمام الكسائي: كان الكسائي إذا قرأ القرآن أو تكلم كأن ملكًا ينطق على فِيهِ.
  9. قرأ الإمام ابن الصائغ وهو صغير السن على الإمام ابن ناشرة المصري، فلما وصل معه إلى سورة الفجر، منعه من الختم لأنه استصغره على الإجازة، فالتجأ ابن الصائغ إلى الشيخ كمال الدين أبي الحسن بن شجاع الضرير الذي تدخل عند ابن ناشرة قائلًا له: اسمع؛ نحن نجيز من دبَّ ودَرَج، فعسى أن يَنبُلَ منهم شخص ينفع الناس ونُذكَرَ به، وما يدريك أن يكون هذا منهم.
    وقد كان؛ فهذا الصبي صار مسند عصره ورحلة وقته وشيخ زمانه وإمام أوانه. وعُمِّر حتى لم يبق معه من يشاركه في شيوخه، ورحل إليه الخلق من الأقطار وازدحم الناس عليه لعلو سنده وكثرة مروياته، وجلس للإقراء بمدرسته الطيبرسية بمصر والجامع العتيق ولازم الإقراء ليلاً نهارًا، فقرأ عليه خلق لا يحصون!
  10. وانظر إلى هذا العَلَم وهو يوسف بن علي بن جبارة بن محمد بن عقيل أبو القاسم الهذلي، المعروف بأبي القاسم الهُذلي، أحد أئمة الإقراء، رحمه الله تعالى.
    طاف البلاد في طلب القراءات، ويقول عنه شيخ القراء ابن الجزري رحمه الله تعالى: لا أعلم أحدًا في هذه الأمة رحل في القراءات رحلته! ولا لقي من لقي من الشيوخ!

    ويقول هو عن نفسه: فجملة من لقيت في هذا العلم، ثلاثمائة وخمسة وستون شيخًا، من آخر المغرب إلى باب فرغانة يمينًا، وشمالًا، وجبلًا، وبحرًا، ولو علمت أحدًا تقدم علي في هذه الطبقة في جميع بلاد الإسلام لقصدته!

 

(خاتمة)

هذا وإني لأرجو أن تكون هذه الكلمات دافعًا لقارئها إلى الإبحار في هذا العلم العظيم، ولعمري إن الوقوف عند اختلاف القراءة لهو من أعظم أبواب التمتع بكلام الله سبحانه، وطالب هذا العلم نال من النعيم وذاق من الحلاوة ما تحار منه العقول حقًا. فإن أعجزك الحال عن طلبه فلا أقل من النظر فيه والتأمل في عجائبه.


وصلى الله على محمد وآله، والحمد لله رب العالمين.

 

"منقول من موقع أثارة"

 

 

إدريس

اسمه:

إدريس بن عبد الكريم الحداد أبو الحسن البغدادي، إمام ضابط متقن ثقة.

 

شيوخه:

قرأ على خلف اختياره، وعن خلف عن قتيبة عن الكسائي، وعلى محمد بن حبيب الشموني، وروى عن أحمد بن حنبل.

 

تلاميذه:

أخذ عنه سماعاً ابن مجاهد، وعرضاً محمد بن أحمد بن شنبوذ، وموسى بن عبيدالله الخاقاني، وابن مقسم،وإبراهيم بن الحسين الشطي ، والحسن بن سعيد المطوعي، وأحمد بن بويان، وأحمد بن جعفر القطيعي وغيرهم.

 

إسناد رواية إدريس:

رواها الإمام أبو الخيرمحمد بن محمد بن الجزري، عن أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد الواسطي ، عن محمد بن أحمد بن عبد الخالق المعدل ، عن أبي
إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فارس التميمي ، عن أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي ، عن أبي محمد عبد الله بن علي البغدادي وقرأ على شيخين الأول أبي المعالي ثابت بن بندار بن إبراهيم البقال، عن القاضي أبي العلاء محمد بن أحمد بن علي ابن يعقوب الواسطي ، عن أبي بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي.
والثاني أبي الفضل عبد القاهرالعباسي عن أبي عبد الله محمد بن الحسن الكارزيني عن أبي العباس الحسن بن سعيد المطوعي ، وقرأ هو والقطيعي على أبي الحسن إدريس بن عبد الكريم البغدادي الحداد.

 

وفاته:

توفي سنة ٢٩٢ هـ

 

 

 

إسحاق

اسمه و نسبه:

إسحاق بن إبراهيم بن عثمان بن عبد الله، أبو يعقوب المروزي البغدادي.
وَرَّاق خلف، وراوي اختياره عنه، ثقة ضابط متقن، كان منفرداً برواية اختيار خلف لا يعرف غيره.

 

شيوخه:

قرأ على خلف اختياره وقام به بعده، وقرأ على الوليد بن مسلم. تلاميذه:ابنه محمد بن إسحاق، ومحمد بن عبد الله النقاش، والحسن بن عثمان البرصاطي، ومحمد بن أحمد بن شنبوذ، وعلي بن موسى الثقفي.

 

إسناد رواية إسحاق:

رواها الإمام أبو الخيرمحمد بن محمد بن الجزري، عن أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد البغدادي، عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الخالق الصائغ ، عن أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فارس التميمي،عن أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي ، عن أبي القاسم هبة الله بن أحمد بن الطبري البغدادي ، عن أبي بكر محمد بن علي بن موسى الخياط ، عن أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن الخضر السوسنجري ، عن أبي الحسن محمد بن عبد الله بن محمد الطوسي ،عن أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم الوراق ، عن أبي محمد خلف بن هشام بن ثعلب البزار

 

وفاته:

توفي سنة 286 هـ

 

 

 

Top